فصل: لَفْظُ الْإِجَازَةِ وَشَرْطُهَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***


لَفْظُ الْإِجَازَةِ وَشَرْطُهَا

494- أَجَزْتُهُ ابْنُ فَارِسٍ قَدْ نَقَلَهْ *** وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ قَدْ أَجَزْتُ لَهْ

495- وَإِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ الْإِجَازَهْ *** مِنْ عَالِمٍ بِهِ وَمَنْ أَجَازَهْ

496- طَالِبُ عِلْمٍ وَالْوَلِيدُ ذَا ذَكَرْ *** عَنْ مَالِكٍ شَرْطًا وَعَنْ أَبِي عُمَرْ

497- أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ *** إِلَّا لِمَاهِرٍ وَمَا لَا يُشْكِلُ

498- وَاللَّفْظُ إِنْ تُجِزْ بِكَتْبٍ أَحْسَنُ *** أَوْ دُونَ لَفْظٍ فَانْوِ وَهْوَ أَدْوَنُ

‏(‏لَفْظُ الْإِجَازَةِ‏)‏ أَيْ‏:‏ كَيْفِيَّتُهُ ‏(‏وَشَرْطُهَا‏)‏ فِي الْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ وَالنِّيَّةِ لِمَنْ كَتَبَ بِهَا، وَكَانَ الْأَنْسَبُ إِيرَادَهُ قَبْلَ أَنْوَاعِهَا مَعَ اشْتِقَاقِهَا وَضَابِطِهَا وَوَزْنِهَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ هُنَاكَ، فَأَمَّا لَفْظُهَا فَ‏(‏أَجَزْتُهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الطَّالِبَ، مَسْمُوعَاتِي أَوْ مَرْوِيَّاتِي، مَتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِدُونِ ذِكْرِ لَفْظِ الرِّوَايَةِ أَوْ نَحْوِهِ الَّذِي هُوَ الْمُجَازُ بِهِ حَقِيقَةً ‏(‏ابْنُ فَارِسٍ‏)‏ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ ‏(‏الْمُجْمَلِ‏)‏ وَغَيْرُهُ، وَالْقَائِلُ‏:‏

اسْمَعْ مَقَالَةَ نَاصِحٍ جَمَعَ النَّصِيحَةَ وَالْمَقَهْ

إِيَّاكَ فَاحْذَرْ أَنْ تَبِيتَ مِنَ الثِّقَاتِ عَلَى ثِقَهْ

وَالْمُقْتَبِسُ مِنْهُ الْحَرِيرِيَّ فِي مَقَامَاتِهِ، وَضَعَ الْمَسَائِلَ الْفِقْهِيَّةَ فِي الْمَقَامَةِ الطِّيبِيَّةِ ‏(‏قَدْ نَقَلَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ تَعَدِّيَهُ بِنَفْسِهِ فِي جُزْءٍ لَهُ سَمَّاهُ‏:‏ مَآخِذَ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ مَعْنَى الْإِجَازَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَأْخُوذٌ مِنْ جَوَازِ الْمَاءِ الَّذِي يُسْقَاهُ الْمَالُ مِنَ الْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ اسْتَجَزْتُ فُلَانًا فَأَجَازَنِي، إِذَا سَقَاكَ مَاءً لِأَرْضِكَ أَوْ مَاشِيَتِكَ، كَذَلِكَ طَالِبُ الْعِلْمِ يَسْأَلُ الْعَالِمَ أَنْ يُجِيزَهُ عِلْمَهُ؛ أَيْ‏:‏ يُجِيزُ إِلَيْهِ عِلْمَهُ، فَيُجِيزُهُ إِيَّاهُ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ ‏(‏وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا، أَنْ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏قَدْ أَجَزْتُ لَهْ‏)‏ رِوَايَةَ مَسْمُوعَاتِي، يَعْنِي مَتَعَدِّيًا بِحَرْفِ الْجَرِّ وَبِدُونِ إِضْمَارٍ، قَالَ‏:‏ وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِجَازَةَ بِمَعْنَى التَّسْوِيغِ وَالْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ، قَالَ‏:‏ وَمَنْ يَقُولُ‏:‏ أَجَزْتُ لَهُ مَسْمُوعَاتٍ، فَعَلَى سَبِيلِ الْإِضْمَارِ لِلْمُضَافِ الَّذِي لَا يَخْفَى نَظِيرُهُ، وَحِينَئِذٍ فَفِي الْأَوَّلِ الْإِضْمَارُ وَالْحَذْفُ دُونَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، وَفِي الثَّالِثِ الْإِضْمَارُ فَقَطْ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ أَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهَا فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ الْإِجَازَةُ مِنْ عَالِمٍ بِهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِالْمُجَازِ ‏(‏وَمَنْ أَجَازَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَالْحَالُ أَنَّ الْمُجَازَ لَهُ ‏(‏طَالِبُ عِلْمٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا هِيَ عِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ؛ إِذِ الْمَرْءُ وَلَوْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْعِلْمِ لَا يَزَالُ لِلَّهِ طَالِبًا، وَيُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «كُلُّ عَالِمٍ غَرْثَانُ إِلَى عِلْمٍ» أَيْ‏:‏ جَائِعٌ، وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ «أَرْبَعٌ لَا يَشْبَعْنَ مِنْ أَرْبَعٍ، فَذَكَرَ مِنْهَا‏:‏ وَعَالِمٌ مِنْ عِلْمٍ»، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَوَسُّعٌ وَتَرْخِيصٌ يَتَأَهَّلُ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ لِمَسِيسِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا، وَهَلِ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْعِلْمِ أَوْ خُصُوصُ الْمُجَازِ بِهِ كَمَا قُيِّدَ فِي الْمُجِيزِ، أَوِ الصِّنَاعَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ‏؟‏ الظَّاهِرُ الْأَخِيرُ ‏(‏وَالْوَلِيدُ‏)‏ بْنُ بَكْرٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَالِكِيُّ ‏(‏ذَا ذَكَرْ‏)‏ أَيْ‏:‏ نَقَلَ فِي كِتَابِهِ ‏(‏الْوِجَازَةِ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْإِجَازَةِ‏)‏ ‏(‏عَنْ‏)‏ إِمَامِهِ ‏(‏مَالِكٍ‏)‏، هُوَ ابْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، ‏[‏عِلْمَ الْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ لَهُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ‏]‏ ‏(‏شَرْطًا‏)‏ فِيهَا، وَعِبَارَتُهُ‏:‏ وَلِمَالِكٍ شَرْطٌ فِي الْإِجَازَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ عَالِمًا بِمَا يُجِيزُ، ثِقَةً فِي دِينِهِ وَرِوَايَتِهِ، مَعْرُوفًا بِالْعِلْمِ، وَالْمُجَازُ بِهِ مُعَارِضًا بِالْأَصْلِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ، وَالْمُجَازُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ مُتَّسِمًا بِسِمَتِهِ، حَتَّى لَا يُوضَعُ الْعِلْمُ إِلَّا عِنْدَ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَكْرَهُ الْإِجَازَةَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَيَقُولُ‏:‏ مَا أَسْلَفْتُهُ فِي أَوَّلِ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ‏.‏ وَفِي أَخْذِ الِاشْتِرَاطِ مِنْهَا نَظَرٌ، إِلَا أَنَّ أَوَّلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَوْ مُتَّسِمَا بِسِمَتِهِ ‏"‏ بِمَنْ هُوَ دُونَ مَنْ قَبْلَهُ فِي الْعِلْمِ، وَكَانَتِ الْكَرَاهَةُ لِلتَّحْرِيمِ‏.‏ ‏(‏وَعَنِ‏)‏ الْحَافِظِ ‏(‏أَبِي عُمَرْ‏)‏، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَمَا فِي جَامِعِ الْعِلْمِ لَهُ ‏(‏أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِجَازَةَ ‏(‏لَا تُقْبَلُ إِلَّا لِمَاهِرٍ‏)‏ بِالصِّنَاعَةِ، حَاذِقٍ فِيهَا، يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَنَاوَلُهَا ‏(‏وَ‏)‏ فِي ‏(‏مَا لَا يُشْكِلُ‏)‏ إِسْنَادُهُ؛ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا مُعَيَّنًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يُحَدِّثَ الْمُجَازُ لَهُ عَنِ الشَّيْخِ بِمَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ، أَوْ يُنْقِصَ مِنْ إِسْنَادِهِ الرَّجُلَ وَالرَّجُلَيْنِ، وَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا وَقَعُوا فِي هَذَا، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ الْإِجَازَةَ لِهَذَا‏.‏

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ، قَالَ‏:‏ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِلطَّالِبِ‏:‏ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا شِئْتَ مِنْ حَدِيثِي، لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ أُصُولَهُ، أَوْ فُرُوعًا كُتِبَتْ مِنْهَا، وَيَنْظُرُ فِيهَا وَيُصَحِّحُهَا‏.‏

وَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ قَالَ‏:‏ الِاسْتِجَازَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْعَمَلِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُجَازِ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَالْفَهْمِ بِاللِّسَانِ، وَإِلَّا لَمْ يَحِلْ لَهُ الْأَخْذُ بِهَا، فَرُبَّمَا كَانَ فِي مَسْأَلَتِهِ فَصْلٌ أَوْ وَجْهٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُجِيزُ، وَلَوْ عَلِمَهُ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُ مَا أَجَابَ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلرِّوَايَةِ خَاصَّةً، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالنَّقْلِ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَلْفَاظِ مَا أُجِيزَ لَهُ؛ لِيَسْلَمَ مِنَ التَّصْحِيفِ وَالتَّحْرِيفِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ عُلُوَّ الْإِسْنَادِ بِهَا فَفِي نَقْلِهِ بِهَا ضَعْفٌ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ‏:‏ أَصْلُ الْإِجَازَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَنْ أَجَازَهَا فَهِيَ قَاصِرَةٌ عِنْدَهُ عَنْ رُتْبَةِ السَّمَاعِ، وَحِينَئِذٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ مِنْ كُلِّ مَنْ يَجُوزُ مِنْهُ السَّمَاعُ، وَإِنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ وَجَوَّزَهَا مِنْ كُلِّ مَنْ يَجُوزُ مِنْهُ السَّمَاعُ، فَأَقَلُّ مَرَاتِبَ الْمُجِيزِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ الْعِلْمَ الْإِجْمَالِيَّ مِنْ أَنَّهُ رَوَى شَيْئًا، وَأَنَّ مَعْنَى إِجَازَتِهِ لِغَيْرِهِ إِذْنُهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ فِي رِوَايَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْإِجَازَةِ الْمَعْهُودَةِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، لَا الْعِلْمَ التَّفْصِيلِيَّ بِمَا رُوِيَ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْإِجَازَةِ، وَهَذَا الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ حَاصِلٌ فِيمَنْ رَأَيْنَاهُ مِنْ عَوَامِ الرُّوَاةِ، فَإِنِ انْحَطَّ رَاوٍ فِي الْفَهْمِ عَنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ- وَلَا إِخَالُ أَحَدًا يَنْحَطُّ عَنْ إِدْرَاكِ هَذَا إِذَا عُرِفَ بِهِ- فَلَا أَحْسَبُهُ أَهْلًا لِأَنْ يُتَحَمَّلَ عَنْهُ بِإِجَازَةٍ وَلَا سَمَاعٍ، قَالَ‏:‏ وَهَذَا الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْإِجَازَةِ هُوَ طَرِيقُ الْجُمْهُورِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَمَا عَدَاهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فَهُوَ مُنَافٍ لِمَا جَوَّزَتِ الْإِجَازَةُ لَهُ مِنْ بَقَاءِ السِّلْسِلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَابِعِ أَنْوَاعِهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّأَهُّلِ حِينَ التَّحَمُّلِ بِهَا كَالسَّمَاعِ، وَفِي أَوَّلِهَا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالْأَدَاءِ بِهَا بِدُونِ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ‏:‏ أَجَزْتُ لَهُ رِوَايَةَ كَذَا بِشَرْطِهِ، وَمِنْهُ ثُبُوتُ الْمَرْوِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُجِيزِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ أَبُو مَرْوَانَ الطُّبُنِيُّ‏:‏ إِنَّهَا لَا تَحْتَاجُ لِغَيْرِ مُقَابَلَةِ نُسْخَةٍ بِأُصُولِ الشَّيْخِ، وَأَشَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِالصِّحَّةِ مَعَ تَحَقُّقِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ عِيَاضٌ‏:‏ تَصِحُّ بَعْدَ تَصْحِيحِ شَيْئَيْنِ‏:‏ تَعْيِينِ رِوَايَاتِ الشَّيْخِ وَمَسْمُوعَاتِهِ وَتَحْقِيقِهَا، وَصِحَّةِ مُطَابَقَةِ كُتُبِ الرَّاوِي لَهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ‏.‏ وَقَدْ كَتَبَ أَبُو الْأَشْعَثِ أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ كَمَا أَوْرَدَهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ وَعِيَاضٌ فِي الْإِلْمَاعِ‏:‏

كِتَابِي إِلَيْكُمْ فَافْهَمُوهُ فَإِنَّهُ *** رَسُولِي إِلَيْكُمْ وَالْكِتَابُ رَسُولُ

فَهَذَا سَمَاعِي مِنْ رِجَالٍ لَقِيتُهُمْ *** لَهُمْ وَرَعٌ مَعَ فَهْمِهِمْ وَعُقُولُ

فَإِنْ شِئْتُمْ فَارْوُوهُ عَنِّي فَإِنَّمَا *** تَقُولُونَ مَا قَدْ قُلْتُهُ وَأَقُولُ

أَلَّا فَاحْذَرُوا التَّصْحِيفَ فِيهِ فَرُبَّمَا *** تَغَيَّرَ عَنْ تَصْحِيفِهِ فَيَحُولُ

وَقَالَ غَيْرُهُ فِي أَبْيَاتٍ‏:‏

وَأَكْرَهُ فِيمَا قَدْ سَأَلْتُمْ غُرُورَكُمْ *** وَلَسْتُ بِمَا عِنْدِي مِنَ الْعِلْمِ أَبْخَلُ

فَمَنْ يَرْوِهِ فَلْيَرْوِهِ بِصَوَابِهِ *** كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ فَالصِّدْقُ أَجْمَلُ

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ‏:‏ الشَّرْطُ كَوْنُهَا مِنْ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، أَوْ كَوْنُهَا غَيْرَ مَجْهُولَةٍ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ كَتَبَ لِمَنْ عَلِمَ مِنْهُ التَّأَهُّلَ‏:‏ أَجَزْتُ لَهُ الرِّوَايَةَ عَنِّي، وَهُوَ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ إِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ غَنِيٌّ عَنْ تَقْيِيدِي ذَلِكَ بِشَرْطِهِ‏.‏

ثُمَّ الْإِجَازَةُ تَارَةً تَكُونُ بِلَفْظِ الْمُجِيزِ بَعْدَ السُّؤَالِ فِيهَا مِنَ الْمُجَازِ لَهُ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ مُبْتَدِئًا بِهَا، وَتَارَةً تَكُونُ بِخَطِّهِ عَلَى اسْتِدْعَاءٍ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، أَوْ بِدُونِ اسْتِدْعَاءٍ ‏(‏وَاللَّفْظُ‏)‏ بِالْإِجَازَةِ ‏(‏إِنْ تُجِزْ‏)‏ أَيُّهَا الْمُحَدِّثُ ‏(‏بِكَتْبٍ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِأَنْ تَجْمَعَهُمَا ‏(‏أَحْسَنُ‏)‏ وَأَوْلَى مِنْ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا ‏(‏أَوْ‏)‏ بِكَتْبٍ ‏(‏دُونَ لَفْظٍ فَانْوِ‏)‏ الْإِجَازَةَ ‏(‏وَهْوَ‏)‏، أَيْ‏:‏ هَذَا الصَّنِيعُ ‏(‏أَدْوَنُ‏)‏ مِنَ الْإِجَازَةِ الْمَلْفُوظِ بِهَا فِي الْمَرْتَبَةِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ دَلِيلُ رِضَاهُ الْقَلْبِيِّ بِالْإِجَازَةِ، وَالْكِتَابَةَ دَلِيلُ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَى، وَالدَّالُّ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَعْلَى، وَبِالثَّانِي يُوَجَّهُ صِحَّتُهَا بِالنِّيَّةِ فَقَطْ، بَلْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ‏:‏ وَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ تَصْحِيحٌ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْكِتَابَةِ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ الَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَلْفِظْ بِمَا قُرِئَ عَلَيْهِ إِخْبَارًا مِنْهُ بِذَلِكَ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي الدَّمِ‏:‏ قَدْ تَقُومُ الْأَفْعَالُ مَقَامَ الْأَقْوَالِ كَمَا فِي نَقْلِ الْمِلْكِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْحِيحِ الْمُعَاطَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا فَقَضِيَّةٌ مَا هُنَا- وَقَالَ الشَّارِحُ‏:‏ إِنَّهُ الظَّاهِرُ- عَدَمُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ كِنَايَةٌ، وَالْكِنَايَةُ شَرْطُهَا النِّيَّةُ، وَلَا نِيَّةَ هُنَا فَبَطَلَتْ، وَكَأَنَّ مَحَلَّ هَذَا حَيْثُ صَرَّحَ بِعَدَمِ النِّيَّةِ، أَمَّا لَوْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ فَالظَّاهِرُ الصِّحَّةُ، إِذِ الْأَصْلُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِيمَا يَكْتُبُهُ الْعَاقِلُ خُصُوصًا فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لَهُ، وَلَعَلَّهَا الصُّورَةُ الَّتِي لَمْ يَسْتَبْعِدُ ابْنُ الصَّلَاحِ صِحَّتَهَا، وَإِنِ احْتَمَلَ كَلَامُهُ مَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فِيهَا أَظْهَرُ، وَهُوَ الَّذِي نَظَمَهُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ حَيْثُ قَالَ‏:‏

وَحَيْثُ لَا نِيَّةَ قَدْ جَوَّزَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ بَاحِثًا أَبْرَزَهَا

فَرْعٌ‏:‏ كَثِيرٌ تَصْرِيحُهُمْ فِي الْأَجَايِزِ بِمَا يَجُوزُ لِي وَعَنِّي رِوَايَتُهُ، فَقِيلَ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ‏:‏ إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِ ‏"‏ وَعَنِّي ‏"‏، قَالَ‏:‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِ ‏"‏ لِي ‏"‏ مَرْوِيَّاتِهِمْ، وَبِ ‏"‏ عَنِّي ‏"‏ مُصَنَّفَاتِهِمْ وَنَحْوَهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَكِتَابَتُهَا مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ تَصْنِيفٌ أَوْ نَظْمٌ أَوْ نَثْرٌ ‏[‏أَوْ بَحْثٌ حُفِظَ عَنْهُ وَمَا أَشْبَهَهُ‏]‏ عَبَثٌ أَوْ جَهْلٌ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ الْمُنَاوَلَةُ

499- ثُمَّ الْمُنَاوَلَاتُ إِمَّا تَقْتَرِنْ *** بِالْإِذْنِ أَوْ لَا، فَالَّتِي فِيهَا أُذِنْ

500- أَعْلَى الْإِجَازَاتِ وَأَعْلَاهَا إِذَا *** أَعْطَاهُ مِلْكًا فَإِعَارَةً كَذَا

501- أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ بِالْكِتَابِ لَهْ *** عَرْضًا وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْمُنَاوَلَهْ

502- وَالشَّيْخُ ذُو مَعْرِفَةٍ فَيَنْظُرَهْ *** ثُمَّ يُنَاوِلَ الْكِتَابَ مُحْضِرَهْ

503- يَقُولُ‏:‏ هَذَا مِنْ حَدِيثِي فَارْوِهِ *** وَقَدْ حَكَوْا عَنْ مَالِكٍ وَنَحْوِهِ

504- بِأَنَّهَا تُعَادِلُ السَّمَاعَا *** وَقَدْ أَبَى الْمُفْتُونَ ذَا امْتِنَاعَا

505- إِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ مَعَ النُّعْمَانِ *** وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ الشَّيْبَانِي

506- وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ رَأَوْا *** بِأَنَّهَا أَنْقَصُ، قُلْتُ‏:‏ قَدْ حَكَوْا

507- إِجْمَاعَهُمْ بِأَنَّهَا صَحِيحَهْ *** مُعْتَمَدًا وَإِنْ تَكُنْ مَرْجُوحَهْ

508- أَمَّا إِذَا نَاوَلَ وَاسْتَرَدَّا *** فِي الْوَقْتِ صَحَّ، وَالْمُجَازُ أَدَّى

509- مِنْ نُسْخَةٍ قَدْ وَافَقَتْ مَرْوِيَّهْ *** وَهَذِهِ لَيْسَتْ لَهَا مَزِيَّهْ

510- عَلَى الَّذِي عَيَّنَ فِي الْإِجَازَهْ *** عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لَكِنْ مَازَهْ

511- أَهْلُ الْحَدِيثِ آخِرًا وَقِدْمَا *** أَمَّا إِذَا مَا الشَّيْخُ لَمْ يَنْظُرْ مَا

512- أَحْضَرَهُ الطَّالِبُ لَكِنَّ اعْتَمَدْ *** مَنْ أَحْضَرَ الْكِتَابَ وَهْوَ مُعْتَمَدْ

513- صَحَّ وَإِلَّا بَطَلَ اسْتِيقَانَا *** وَإِنْ يَقُلْ‏:‏ أَجَزْتُهُ إِنْ كَانَا

514- ذَا مِنْ حَدِيثِي فَهْوَ فِعْلٌ حَسَنُ *** يُفِيدُ حَيْثُ وَقَعَ التَّبَيُّنُ

515- وَإِنْ خَلَتْ مِنْ إِذْنِ الْمُنَاوَلَهْ *** قِيلَ‏:‏ تَصِحُّ، وَالْأَصَحُّ بَاطِلَهْ

الْقِسْمُ ‏(‏الرَّابِعُ‏)‏ مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ‏:‏ ‏(‏الْمُنَاوَلَةُ‏)‏، وَهِيَ لُغَةً‏:‏ الْعَطِيَّةُ، وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ الْخَضِرِ‏:‏ «فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرٍ نَوْلٍ» أَيْ‏:‏ إِعْطَاءٍ، وَاصْطِلَاحًا‏:‏ إِعْطَاءُ الشَّيْخِ الطَّالِبَ شَيْئًا مِنْ مَرْوِيِّهِ مَعَ إِجَازَتِهِ بِهِ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً‏.‏

وَأُخِّرَ عَنِ الْإِجَازَةِ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ أَعْلَى؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ لِأَوَّلِ نَوْعَيْهِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ سَعِيدٍ‏:‏ إِنَّهُ فِي مَعْنَاهَا، لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى مُشَافَهَةِ الْمُجِيزِ لِلْمُجَازِ لَهُ وَحُضُورِهِ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ النَّوْعِ الثَّانِي فَأَنْكَرَ مَزِيدَهُ فَائِدَةً فِيهِ، وَقَالَ‏:‏ هُوَ رَاجِعٌ إِلَيْهَا‏.‏ بَلِ اشْتَرَطَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ كَمَا مَضَى قَرِيبًا الْمُنَاوَلَةَ لِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَاحْتِيجَ لِسَبْقِ مَعْرِفَتِهَا، أَوْ قُدِّمَتْ لِكَوْنِهَا تَشْمَلُ الْمَرْوِيَّ الْكَثِيرَ بِخِلَافِ الْمُنَاوَلَةِ عَلَى الْأَغْلَبِ فِيهِمَا، أَوْ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمُنَاوَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْفَاضِلِ، أَوْ لِاشْتِمَالِ كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ عَلَى فَاضِلٍ وَمَفْضُولٍ ‏[‏إِذْ أَوَّلُ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ‏]‏ أَعْلَى مِنْ ثَانِي نَوْعَيِ الْمُنَاوَلَةِ، فَلَمْ يَنْحَصِرْ لِذَلِكَ التَّقْدِيمُ فِي وَاحِدٍ، وَحِينَئِذٍ فَقُدِّمَتْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ فِي الْعِلْمِ مِنْ صَحِيحِهِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا، وَقَالَ لَهُ‏:‏ «لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا»، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَزَى الْبُخَارِيُّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهَذَا قَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، فَقَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ‏:‏ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ إِلَى نَخْلَةَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ «كُنْ بِهَا حَتَّى تَأْتِيَنَا بِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ قُرَيْشٍ»، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِقِتَالٍ، وَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنْ يَسِيرَ، فَقَالَ‏:‏ «اخْرُجْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ حَتَّى إِذَا سِرْتَ يَوْمَيْنِ فَافْتَحْ كِتَابَكَ، وَانْظُرْ فِيهِ، فَمَا أَمَرْتُكَ بِهِ فَامْضِ لَهُ، وَلَا تَسْتَكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى الذَّهَابِ مَعَكَ»، فَلَمَّا سَارَ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ‏:‏ «أَنِ امْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً فَتَأْتِيَنَا مِنْ أَخْبَارِ قُرَيْشٍ»‏.‏

فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، قَدْ صَرَّحَ فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ بِالتَّحْدِيثِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا عَنْ عُرْوَةَ، بَلْ رُوِّينَاهُ مُتَّصِلًا فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ، وَالْمُدْخَلِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي السَّوَّارِ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَفَعَهُ وَهُوَ حُجَّةٌ، وَلِذَا جَزَمَ الْبُخَارِيُّ بِهِ إِذْ عَلَّقَهُ، وَأَوْرَدَهُ الضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ لَا سِيَّمَا وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

‏(‏ثُمَّ الْمُنَاوَلَاتُ‏)‏ عَلَى نَوْعَيْنِ‏:‏ ‏(‏إِمَّا تَقْتَرِنْ بِالْإِذْنِ‏)‏ أَيْ‏:‏ بِالْإِجَازَةِ ‏(‏أَوْ لَا‏)‏، بِأَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَةً عَنْهَا ‏(‏فَ‏)‏ الْمُنَاوَلَةُ ‏(‏الَّتِي فِيهَا أُذِنْ‏)‏ أَيْ‏:‏ أُجِيزَ، وَهِيَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ ‏(‏أَعْلَى الْإِجَازَاتِ‏)‏ مُطْلَقًا؛ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْيِينِ وَالتَّشْخِيصِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ فِيهِ، حَتَّى كَانَ مِمَّنْ حَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، فَقَالَ‏:‏ وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهَا‏.‏

وَقَوْلُ ابْنِ الْأَثِيرِ‏:‏ الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَخْفَضُ مِنَ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ أَعْلَى دَرَجَاتِهَا أَنَّهَا إِجَازَةٌ مَخْصُوصَةٌ فِي كِتَابٍ بِعَيْنِهِ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ غَالِبًا فِي كِتَابٍ بِعَيْنِهِ فَهِيَ مُقْتَرِنَةٌ بِمَا فِيهِ مَزِيدُ ضَبْطٍ، بَلْ وَالتَّخْصِيصُ أَبْلَغُ فِي الضَّبْطِ، وَتَحْتَ هَذَا النَّوْعِ صُوَرٌ، فَالْجَمْعُ أَوَّلًا بِالنَّظَرِ لِذَلِكَ، وَهِيَ- أَعْنِي الصُّوَرَ- مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْعُلُوِّ ‏(‏وَأَعْلَاهَا إِذَا أَعْطَاهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَعْطَى الشَّيْخُ الطَّالِبَ عَلَى وَجْهِ الْمُنَاوَلَةِ تَصْنِيفًا لَهُ، أَوْ أَصْلًا مِنْ سَمَاعِهِ، وَكَذَا مِنْ مُجَازِهِ، أَوْ فَرْعًا مُقَابَلًا بِالْأَصْلِ ‏(‏مِلْكًا‏)‏ أَيْ‏:‏ عَلَى جِهَةِ التَّمْلِيكِ لَهُ بِالْهِبَةِ، أَوْ بِالْبَيْعِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، قَائِلًا لَهُ‏:‏ هَذَا مِنْ تَصْنِيفِي، أَوْ نَظْمِي، أَوْ سَمَاعِي، أَوْ رِوَايَتِي عَنْ فُلَانٍ، أَوْ عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَنَا عَالِمٌ بِمَا فِيهِ، فَارْوِهِ أَوْ حَدِّثْ بِهِ عَنِّي، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ، فَضْلًا عَنْ لَفْظِهَا كَأَجَزْتُكَ بِهِ، بَلْ وَكَذَا لَوْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ شَيْخِهِ وَاكْتَفَى بِكَوْنِهِ مُبَيَّنًا فِي الْكِتَابِ الْمُنَاوَلِ‏.‏

قَالَ يَحْيَى بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبَّادٍ الزُّبَيْرِيُّ‏:‏ طَلَبْتُ مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَحَادِيثَ أَبِيهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ دَفْتَرًا، فَقَالَ لِي‏:‏ هَذِهِ أَحَادِيثُ أَبِي قَدْ صَحَّحْتُهُ وَعَرَفْتُ مَا فِيهِ فَخُذْهُ عَنِّي، وَلَا تَقُلْ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ حَتَّى أَعْرِضَهُ، وَلَمْ يُصَرِّحِ ابْنُ الصَّلَاحِ بِكَوْنِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَعْلَى، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَهَا فِي الذِّكْرِ كَمَا فَعَلَ عِيَاضٌ، وَهُوَ مِنْهُمَا مُشْعِرٌ بِذَلِكَ‏.‏

‏(‏فَ‏)‏ يَلِيهَا مَا يُنَاوِلُهُ الشَّيْخُ لَهُ مِنْ أَصْلٍ أَوْ فَرْعٍ أَيْضًا ‏(‏إِعَارَةً‏)‏ أَيْ‏:‏ عَلَى جِهَةِ الْإِعَارَةِ، أَوْ إِجَارَةً وَنَحْوَهَا، فَيَقُولُ لَهُ‏:‏ خُذْهُ، وَهُوَ رِوَايَتِي عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوحِ أَوَّلًا فَانْتَسِخْهُ، ثُمَّ قَابِلْ بِهِ، أَوْ قَابِلْ بِهِ نُسْخَتَكَ الَّتِي انْتَسَخْتَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، ثُمَّ رُدَّهُ إِلَيَّ‏.‏ وَهَلْ تَكْفِي الْإِشَارَةُ إِلَى نُسْخَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ أَمْرِ بَعْضِ مَنْ حَضَرَ بِالْإِعْطَاءِ‏؟‏ الظَّاهِرُ نَعَمْ، وَبِهِ صَرَّحَ الرَّازِيُّ فِي الْإِشَارَةِ غَيْرِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْإِجَازَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ إِنَّهُ لَوْ أَدْخَلَهُ خِزَانَةَ كُتُبِهِ وَقَالَ‏:‏ ارْوِ جَمِيعَ هَذِهِ عَنِّي؛ فَإِنَّهَا سَمَاعَاتِي مِنَ الشُّيُوخِ الْمَكْتُوبَةِ عَنْهُمْ، كَانَ بِمَثَابَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَالَهُ عَلَى أَعْيَانٍ مُسَمَّاةٍ مُشَاهَدَةٍ، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا فِيهَا، وَأَمَرَهُ بِرِوَايَةِ مَا تَضَمَّنَتْ مِنْ سَمَاعَاتِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ‏:‏ تَصَدَّقْتُ لَهُ عَلَيْكَ بِمَا فِي هَذَا الصُّنْدُوقِ، أَوْ نَحْوَهُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا فِيهِ، فَقَالَ‏:‏ قَبِلْتُ‏.‏ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِقَوْلِهِ‏:‏ إِنَّهُ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَعْطَاهُ إِلَى آخِرِهِ ‏"‏، عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ لَوْ سَمِعَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ كِتَابٍ مَشْهُورٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ هَذَا؛ لِأَنَّ النُّسَخَ تَخْتَلِفُ مَا لَمْ يُعْلَمِ اتِّفَاقُهُمَا بِالْمُقَابَلَةِ؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ عُلِمَ اتِّفَاقُهُمَا كَفَى، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى إِعْطَاءِ كَذَا، فَوَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ طُلِّقَتْ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ‏:‏ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا قِسْمًا مُسْتَقِلَا يُسَمَّى بِالْإِشَارَةِ، وَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ كَالْمُنَاوَلَةِ، فَلَا فَرْقَ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صُوَرِ الْعَارِيَةِ مَا يُوَازِي التَّمْلِيكَ بِأَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ عَارِيَةً؛ لِيُحَدِّثَ بِهِ مِنْهُ، ثُمَّ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، وَ‏(‏كَذَا‏)‏ مِمَّا يُوَازِي الصُّورَةَ الْمَرْجُوحَةَ فِي الْعُلُوِّ ‏(‏أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ بِالْكِتَابِ‏)‏ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الشَّيْخِ أَوْ فَرْعٌ مُقَابَلٌ عَلَيْهِ ‏(‏لَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ لِلشَّيْخِ ‏(‏عَرْضًا‏)‏ أَيْ‏:‏ لِأَجْلِ عَرْضِ الشَّيْخِ لَهُ، وَقَدْ سَمَّى هَذِهِ الصُّورَةَ عَرْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلِقَصْدِ التَّمْيِيزِ لِذَلِكَ مِنْ عَرْضِ السَّمَاعِ الْمَاضِي فِي مَحَلِّهِ يُقَيَّدُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ مَا مَعْنَاهُ‏:‏ ‏(‏وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْمُنَاوَلَةِ وَالشَّيْخُ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَالْحَالُ أَنَّ الشَّيْخَ الَّذِي أُعْطِيَ الْكِتَابَ ‏(‏ذُو مَعْرِفَةٍ‏)‏ وَحِفْظٍ وَيَقَظَةٍ ‏(‏فَيَنْظُرَهْ‏)‏ وَيَتَصَفَّحَهُ مُتَأَمِّلًا؛ لِيَعْلَمَ صِحَّتَهُ وَعَدَمَ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ، أَوْ يُقَابِلَهُ بِأَصْلِ كِتَابِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا، كُلُّ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ‏.‏

‏(‏ثُمَّ يُنَاوِلَ‏)‏ الشَّيْخُ ذَاكَ ‏(‏الْكِتَابَ‏)‏ بَعْدَ اعْتِبَارِهِ ‏(‏مُحْضِرَهْ‏)‏ الطَّالِبَ لِرِوَايَتِهِ مِنْهُ، وَ‏(‏يَقُولُ‏)‏ لَهُ‏:‏ ‏(‏هَذَا مِنْ حَدِيثِي‏)‏، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ‏(‏فَارْوِهِ‏)‏، أَوْ حَدِّثْ بِهِ عَنِّي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوحِ أَوَّلًا حَتَّى فِي الِاكْتِفَاءِ بِكَوْنِ سَنَدِهِ بِهِ مُبَيَّنًا فِيهِ‏.‏ وَمِمَّنْ فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ، إِمَّا ابْنُ عُمَرَ أَوِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ‏:‏ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بِكِتَابٍ فِيهِ أَحَادِيثُ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ انْظُرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَمَا عَرَفْتَ مِنْهُ اتْرُكْهُ، وَمَا لَمْ تَعْرِفْهُ امْحُهُ‏.‏

وَابْنُ شِهَابٍ قَالَ‏:‏ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ أَشْهَدُ أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِالْكِتَابِ مِنْ كُتُبِهِ فَيَتَصَفَّحُهُ وَيَنْظُرُ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ هَذَا مِنْ حَدِيثِي أَعْرِفُهُ، خُذْهُ عَنِّي‏.‏

وَمَالِكٌ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرُّقْعَةُ، فَأَخْرَجَ رُقْعَةً وَقَالَ‏:‏ قَدْ نَظَرْتُ فِيهَا، وَهِيَ مِنْ حَدِيثِي فَارْوِهَا عَنِّي‏.‏

وَأَحْمَدُ جَاءَهُ رَجُلٌ بِجُزْئَيْنِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُجِيزَهُ بِهِمَا، فَقَالَ‏:‏ ضَعْهُمَا وَانْصَرِفْ‏.‏ فَلَمَّا خَرَجَ أَخَذَهُمَا فَعَرَضَ بِهِمَا كِتَابَهُ وَأَصْلَحَ لَهُ بِخَطِّهِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِيهِمَا‏.‏

وَالْأَوْزَاعِيُّ كَمَا سَيَأْتِي، وَالذُّهْلِيُّ وَآخَرُونَ‏.‏

‏(‏وَقَدِ‏)‏ اخْتَلَفُوا فِي مُوَازَاةِ هَذَا النَّوْعِ لِلسَّمَاعِ، فَ‏(‏حَكَوْا‏)‏ كَالْحَاكِمِ وَمَنْ تَبِعَهُ ‏(‏عَنْ‏)‏ الْإِمَامِ ‏(‏مَالِكٍ‏)‏ رَحِمَهُ اللَّهُ ‏(‏وَنَحْوِهِ‏)‏ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَدَنِيِّينَ؛ كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَرَبِيعَةِ الرَّأْيِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَكِّيِّينَ؛ كَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، وَمُسْلِمٍ الزَّنْجِيِّ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَمِنِ الْكُوفِيِّينَ كَعَلْقَمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّيْنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمِنِ الْبَصْرِيِّينَ كَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، وَمِنِ الْمِصْرِيِّينَ؛ كَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، وَمِنِ الشَّامِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخَ الْحَاكِمِ، الْقَوْلَ ‏(‏بِأَنَّهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمُنَاوَلَةَ الْمَقْرُونَةَ بِالْإِجَازَةِ ‏(‏تُعَادِلُ السَّمَاعَا‏)‏، وَلَمْ يَحْكِ الْحَاكِمُ لَفْظَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ قَالَ‏:‏ تَذَاكَرْنَا بِحَضْرَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ السَّمَاعَ، فَقَالَ‏:‏ قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُوَيْسٍ‏:‏ السَّمَاعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ‏:‏ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمُحَدِّثِ، وَهُوَ أَصَحُّهَا، وَقِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ، وَالْمُنَاوَلَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ أَرْوِيهِ عَنْكَ وَأَقُولُ‏:‏ ثَنَا، وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ، فَهَذَا مُشْعِرٌ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ بِتَسْوِيَةِ السَّمَاعِ لَفْظًا وَالْمُنَاوَلَةِ، وَحِينَئِذٍ فَكَأَنَّ عَرْضَ السَّمَاعِ وَعَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ عِنْدَ مَالِكٍ سِيَّانِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِاسْتِوَاءِ عَرْضِ السَّمَاعِ وَالسَّمَاعِ لَفْظًا، وَكَذَا مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ السَّمَاعِ وَعَرْضِ الْمُنَاوَلَةِ أَحْمَدُ، فَرَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ الْمَرُوَّذِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِذَا أَعْطَيْتُكَ كِتَابِي وَقُلْتُ لَكَ‏:‏ ارْوِهِ عَنِّي وَهُوَ مِنْ حَدِيثِي، فَمَا تُبَالِي أَسَمِعْتَهُ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ، وَأَعْطَانِي أَنَا وَأَبَا طَالِبٍ الْمُسْنَدَ مُنَاوَلَةً، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي الْيَمَانِ‏:‏ قَالَ لِي أَحْمَدُ‏:‏ كَيْفَ تُحَدِّثُ عَنْ شُعَيْبٍ‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ بَعْضُهَا قِرَاءَةً، وَبَعْضُهَا أَنَا، وَبَعْضُهَا مُنَاوَلَةً، فَقَالَ‏:‏ قُلْ فِي كُلٍّ‏:‏ أَنَا‏.‏ وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ الْآتِيَةِ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ‏:‏ الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ عِنْدِي كَالسَّمَاعِ الصَّحِيحِ، بَلْ أَعْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِالِاسْتِوَاءِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مُقَدِّمَةِ جَامِعِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُنَاوَلَةَ أَوْفَى مِنَ السَّمَاعِ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَسْنَدَهُ عِيَاضٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ‏:‏ كَلَّمَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَكَتَبْتُ لَهُ أَحَادِيثَ ابْنِ شِهَابٍ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ‏:‏ فَسَمِعَهَا مِنْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي لَفْظٍ‏:‏ بَلْ أَخَذَهَا عَنِّي وَحَدَّثَ بِهَا، فَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ عَقِبَهُ‏:‏ وَهَذَا بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ بِكِتَابِهِ مَعَ إِذْنِهِ أَكْثَرُ مِنَ الثِّقَةِ بِالسَّمَاعِ وَأَثْبَتُ؛ لِمَا يَدْخُلُ مِنَ الْوَهْمِ عَلَى السَّامِعِ وَالْمُسْمِعِ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَكِنْ ‏(‏قَدْ أَبَى الْمُفْتُونَ‏)‏، جَمْعُ مُفْتٍ؛ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَفْتَى، فَلَمَّا جُمِعَ جَمْعَ تَصْحِيحٍ الْتَقَى سَاكِنَانِ‏:‏ الْيَاءُ الَّتِي آخِرَ الْكَلِمَةِ، وَوَاوُ الْجَمْعِ، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ، فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ‏(‏ذَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا حَالَّةٌ مَحَلَّ السَّمَاعِ، فَضْلًا عَنْ تَرْجِيحِهَا، ‏[‏حَيْثُ امْتَنَعَ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ‏]‏ ‏(‏امْتِنَاعًا‏)‏، مِنْهُمْ ‏(‏إِسْحَاقُ‏)‏ بْنُ رَاهَوَيْهِ ‏(‏وَ‏)‏ سُفْيَانُ ‏(‏الثَّوْرِيِّ‏)‏ بِالْمُثَلَّثَةِ نِسْبَةً لِثَوْرٍ، بَطْنٍ مِنْ تَمِيمٍ ‏(‏مَعَ‏)‏ بَاقِي الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ‏:‏ أَبِي حَنِيفَةَ ‏(‏النُّعْمَانِ وَ‏)‏ إِمَامِنَا ‏(‏الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ‏)‏ بْنِ حَنْبَلٍ ‏(‏الشَّيْبَانِيِّ‏)‏، نِسْبَةً لِشَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ ‏(‏وَابْنِ الْمُبَارَكِ‏)‏ عَبْدِ اللَّهِ ‏(‏وَغَيْرِهِمْ‏)‏ كَالْبُوَيْطِيِّ، وَالْمُزَنِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى حَسْبَمَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْهُمْ، حَيْثُ ‏(‏رَأَوْا‏)‏ الْقَوْلَ ‏(‏بِأَنَّهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمُنَاوَلَةَ ‏(‏أَنْقَصُ‏)‏ مِنَ السَّمَاعِ‏.‏ وَالَّذِي حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوُهَا سَمَاعًا فَقَطْ، وَلَكُنَّ مُقَابَلَتَهَ الْأَوَّلَ بِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا أَنْقَصُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ قَبْلَ ذِكْرِهِ كَلَامَ الْحَاكِمِ فَقَالَ‏:‏ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَالٍّ مَحَلَّ السَّمَاعِ، وَأَنَّهُ مُنْحَطٌّ عَنْ دَرَجَةِ التَّحْدِيثِ لَفْظًا، وَالْإِخْبَارِ قِرَاءَةً‏.‏

ثُمَّ حَكَى عَنِ الْحَاكِمِ الْعَزْوَ لِلْمَذْكُورِينَ إِلَى أَنْ قَالَ‏:‏ قَالَ الْحَاكِمُ‏:‏ وَعَلَيْهِ عَهِدْنَا أَئِمَّتَنَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبُوا، وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعُهَا»، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ» فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمَا غَيْرَ السَّمَاعِ، فَدَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، لَكِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ تَنْزِيلِ الْمُنَاوَلَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ فِي الْقُوَّةِ، قَالَ‏:‏ عَلَى أَنِّي لَمْ أَجِدْ مِنْ صَرِيحِ كَلَامِهِمْ مَا يَقْتَضِيهِ- انْتَهَى، وَفِيهِ نَظَرٌ‏.‏

وَمِمَّنْ قَالَ‏:‏ إِنَّهَا أَنْقَصُ مَالِكٌ، فَأَخْرَجَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ أَصَحِ السَّمَاعِ، فَقَالَ‏:‏ قِرَاءَتُكَ عَلَى الْعَالِمِ أَوِ الْمُحَدِّثِ، ثُمَّ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ عَلَيْكَ، ثُمَّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْكَ كِتَابَهُ فَيَقُولَ‏:‏ ارْوِ هَذَا عَنِّي‏.‏ وَهَذَا يَقْتَضِي انْحِطَاطَ دَرَجَتِهَا عَنِ الْقِرَاءَةِ، لَكِنَّهُ مُشْعِرٌ بِتَسْمِيَتِهَا سَمَاعًا، لِيَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَادَ فِي الْجَوَابِ، وَحِينَئِذٍ فَاخْتَلَفَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ ‏"‏ ثُمَّ ‏"‏ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ، وَكَذَا بِمُقْتَضَى مَا سَلَفَ اخْتَلَفَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَلَلُ مِنَ الْحَاكِمِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّ فِي كَلَامِهِ بَعْضَ التَّخْلِيطِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ خَلَطَ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي عَرْضِ الْقِرَاءَةِ بِمَا وَرَدَ فِي عَرْضِ الْمُنَاوَلَةِ، وَسَاقَ الْجَمِيعَ مَسَاقًا وَاحِدًا، ‏[‏أَوْ تُحْمَلُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْ أَحْمَدَ بِاسْتِوَائِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْحُجِّيَّةِ‏]‏، لَا عَلَى الْقُوَّةِ، وَهُوَ أَوْلَى؛ فَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا جَاءَهُ الرَّجُلُ بِالرُّقْعَةِ مِنَ الْحَدِيثِ فَيَأْخُذُهَا فَيُعَارِضُ بِهَا كِتَابَهُ، ثُمَّ يَقْرَؤُهَا عَلَى صَاحِبِهَا‏.‏

وَكَذَا لَا يَخْدِشُ فِي حِكَايَتِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِمَا حَكَّاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ نَصَّ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ مَعَ فَتْحِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمَا، قَالَ‏:‏ كَالصُّكُوكِ لِلنَّاسِ عَلَى النَّاسِ لَا نَقْبَلُهَا مَخْتُومَةً، وَهُمَا لَا يَدْرِيَانِ مَا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْخَاتَمَ قَدْ يُصْنَعُ عَلَى الْخَاتَمِ، وَيُبَدَّلُ الْكِتَابُ، وَحَكَى فِي تَبْدِيلِ الْكِتَابِ حِكَايَتَهُ، وَلَا فِي حِكَايَتِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِكَرَاهِيَةِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي صَحِيفَةٍ مَخْتُومَةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ بَابُ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ، وَأَيْضًا فَالتَّبْدِيلُ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ فِي صُورَةِ الْمُنَاوَلَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْوَصِيَّةِ- وَإِنْ حُكِيَتِ الْكَرَاهَةُ فِيهَا أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي قِلَابَةَ الْجَرْمِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ كَمَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي ‏(‏الْمَدْخَلِ‏)‏، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 81‏]‏ فَقَدْ حُكِيَ أَيْضًا فِيهَا الْجَوَازُ عَنْ مَالِكٍ، بَلْ وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، وَيَدْفَعُهَا إِلَى ابْنِ عَمِّهِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَيَقُولُ‏:‏ اشْهَدْ عَلَى مَا فِيهَا، وَبِهَا اسْتَدَلَّ ابْنُ شِهَابٍ، حَيْثُ قِيلَ لَهُ فِي جَوَازِ الْمُنَاوَلَةِ، فَقَالَ‏:‏ أَلَمْ تَرَ الرَّجُلَ يَشْهَدُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَلَا يَفْتَحُهَا‏؟‏ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا النِّزَاعُ مَعَهُ فِي إِدْرَاجِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُجِيزِينَ بِأَنَّ صَاحِبَ الْقِنْيَةِ حُكِيَ عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبِهِ مُحَمَّدٍ فِي إِعْطَاءِ الشَّيْخِ الْكِتَابَ لِلطَّالِبِ وَإِجَازَتِهِ لَهُ بِهِ- عَدَمَ الْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، فَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا إِنَّمَا مَنَعَا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدَ شَيْئَيْنِ؛ إِمَّا السَّمَاعُ أَوْ مَعْرِفَةُ الطَّالِبِ، بِمَا فِي الْكِتَابِ؛ أَيْ‏:‏ بِصِحَّتِهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِنْ بُطْلَانِ الْإِجَازَةِ؛ لِجَوَازِ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ، أَفَادَ حَاصِلَهُ الْمُؤَلِّفُ‏.‏

وَمَا حَكَاهُ أَبُو سُفْيَانَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ الرَّازِيُّ، عَنْ إِمَامِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا مَنَعَا الْإِجَازَةَ وَالْمُنَاوَلَةَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ الْمُجَرَّدَةِ‏.‏

وَكَذَا فِي ذِكْرِ ابْنِ رَاهَوَيْهِ مَعَهُمْ بِمَا سَيَأْتِي فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ مِنِ احْتِجَاجِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ بِحَدِيثٍ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فِيهَا بِغَيْرِهِ، وَقَالَ لَهُ‏:‏ هَذَا سَمَاعٌ، وَذَاكَ كِتَابٌ، يَعْنِي‏:‏ فَهُوَ مُقَدَّمٌ، فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ‏:‏ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ ‏[‏بِإِرَادَةِ أَصْلِ الِاحْتِجَاجِ‏]‏‏.‏

وَلِأَجْلِ مَا نُسِبَ لِلْحَاكِمِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَقِبَ حِكَايَتِهِ الِاسْتِوَاءَ‏:‏ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ جَوَّزُوا الرِّوَايَةَ بِهَا، لَا أَنَّهُمْ نَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ‏.‏ وَنَحْوُهُ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ بِأَنَّ الْمِثْلِيَّةَ فِي الْحُكْمِ وَالْإِجْمَالِ، وَعَدَمَهَا فِي التَّفْصِيلِ وَالتَّحْقِيقِ، فَصَارَ الْخِلَافُ فِي الْحَقِيقَةِ لَفْظِيًّا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ‏:‏ يَقُولُ فِي الْعَرْضِ‏:‏ قَرَأْتُ وَقُرِئَ، وَفِي الْمُنَاوَلَةِ يَتَدَيَّنُ بِهِ وَلَا يُحَدِّثُ بِهِ‏.‏ وَهَذَا قَدْ لَا يُنَافِيهِ إِدْرَاجُ الْحَاكِمِ لَهُ فِيمَنْ يَرَاهَا دُونَ السَّمَاعِ، لَكِنْ قَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورٍ قَالَ‏:‏ لَقِيتُ الْأَوْزَاعِيَّ وَمَعِي كِتَابٌ كَتَبْتُهُ مِنْ حَدِيثِهِ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا عَمْرٍو، هَذَا كِتَابٌ كَتَبْتُهُ مِنْ أَحَادِيثِكَ، فَقَالَ‏:‏ هَاتِهِ، فَأَخَذَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَانْصَرَفْتُ أَنَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ لَقِيَنِي بِهِ فَقَالَ‏:‏ هَذَا كِتَابُكَ قَدْ عَرَضْتُهُ وَصَحَّحْتُهُ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا عَمْرٍو، فَأَرْوِيهِ عَنْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قُلْتُ‏:‏ أَذْهَبُ فَأَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنِي الْأَوْزَاعِيُّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قَالَ ابْنُ شُعَيْبٍ‏:‏ وَأَنَا أَقُولُ كَمَا قَالَ، وَبِالْجُمْلَةِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ مَنْ يَرُدُّ عَرْضَ الْقِرَاءَةِ يَرُدُّ عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى‏.‏

‏(‏قُلْتُ‏)‏‏:‏ وَلَكِنْ ‏(‏قَدْ حَكَوْا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ ‏(‏إِجْمَاعَهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَهْلُ النَّقْلِ، عَلَى الْقَوْلِ ‏(‏بِأَنَّهَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمُنَاوَلَةَ ‏(‏صَحِيحَهْ مُعْتَمَدًا‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنْ أَجْلِ اعْتِمَادِهَا وَتَصْدِيقِهَا، يَعْنِي وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ‏.‏ وَعِبَارَةُ عِيَاضٍ بَعْدَ أَنْ قَالَ‏:‏ وَهِيَ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ عِنْدَ مُعْظَمِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَسَمَّى جَمَاعَةً‏:‏ وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ أَهْلِ النَّقْلِ وَالْأَدَاءِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ ‏(‏وَإِنْ تَكُنِ‏)‏ الْمُنَاوَلَةُ كَمَا تَقَرَّرَ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّمَاعِ ‏(‏مَرْجُوحَهْ‏)‏ عَلَى الْمُعْتَمَدِ‏.‏

ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ صُوَرِ هَذَا النَّوْعِ صُورَتَانِ ‏(‏أَمَّا‏)‏ الْأُولَى ‏(‏إِذَا نَاوَلَ‏)‏ الشَّيْخُ الْكِتَابَ أَوِ الْجُزْءَ لِلطَّالِبِ مَعَ إِجَازَتِهِ لَهُ بِهِ ‏(‏وَاسْتَرَدَّا‏)‏ ذَلِكَ مِنْهُ ‏(‏فِي الْوَقْتِ‏)‏، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْهُ، بَلْ أَمْسَكَهُ الشَّيْخُ عِنْدَهُ، فَقَدْ ‏(‏صَحَّ‏)‏ هَذَا الصَّنِيعُ، وَتَصِحُّ بِهِ الرِّوَايَةُ وَالْعَمَلُ ‏(‏وَ‏)‏ لَكِنَّ الْمُجَازَ لَهُ ‏[‏إِذَا أَرَادَ‏]‏ الرِّوَايَةَ لِذَلِكَ ‏(‏أَدَّى مِنْ نُسْخَةٍ قَدْ وَافَقَتْ مَرْوِيَّهْ‏)‏ الْمُجَازِ بِهِ بِمُقَابَلَتِهَا، أَوْ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ بِمُوَافَقَتِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجَازَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ، أَوْ مِنَ الْأَصْلِ الَّذِي اسْتَرَدَّهُ مِنْهُ شَيْخُهُ إِنْ ظَفِرَ بِهِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ سَلَامَتُهُ مِنَ التَّغْيِيرِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى ‏(‏وَ‏)‏ لَكِنْ ‏(‏هَذِهِ‏)‏ ‏(‏لَيْسَتْ لَهَا‏)‏، وَعِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ‏:‏ لَا يَكَادُ يَظْهَرُ لَهَا ‏(‏مَزِيَّهْ عَلَى‏)‏ الْكِتَابِ ‏(‏الَّذِي عَيَّنَ فِي الْإِجَازَةِ‏)‏ مُجَرَّدًا عَنِ الْمُنَاوَلَةِ ‏(‏عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ‏)‏ أَيْ‏:‏ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ كَمَا هِيَ عِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَسَبَقَهُ لِحَاصِلِ ذَلِكَ عِيَاضٌ فَقَالَ‏:‏ وَلَا مَزِيَّةَ لَهُ عِنْدَ مَشَايِخِنَا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالتَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِجَازَتِهِ إِيَّاهُ أَنْ يُحَدِّثَ عَنْهُ بِكِتَابٍ ‏(‏الْمُوَطَّأِ‏)‏ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ حَاضِرٌ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ تَعْيِينُ مَا أَجَازَ لَهُ ‏[‏انْتَهَى، فَهِيَ مُتَقَاعِدَةٌ عَمَّا سَبَقَ، وَالْخِلَافُ فِيهَا أَقْوَى؛ لِعَدَمِ احْتِوَاءِ الطَّالِبِ عَلَى الْمَرْوِيِّ الَّذِي تَحَمَّلَهُ وَغَيْبَتِهِ عَنْهُ‏]‏ ‏(‏لَكِنْ مَازَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ جَعَلَ لَهُ مَزِيَّةً مُعْتَبَرَةً عَلَى ذَلِكَ ‏(‏أَهْلُ الْحَدِيثِ‏)‏، أَوْ مَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ مِنْهُمْ ‏(‏آخِرًا وَقِدْمَا‏)‏، وَسَبَقَ ابْنَ الصَّلَاحِ لِذَلِكَ عِيَاضٌ، وَعِبَارَتُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ‏:‏ لَكِنْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا شُيُوخُنَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَرَوْنَ لِهَذَا مَزِيَّةً عَلَى الْإِجَازَةِ، يَعْنِي‏:‏ فَإِنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحَمُّلِ كَيْفَ مَا كَانَ لَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِهِ إِلَّا مِنَ الْأَصْلِ أَوِ الْمُقَابَلِ بِهِ مُقَابَلَةً يُوثَقُ بِمِثْلِهَا، وَرُبَّمَا يَسْتَفِيدُ بِهَا مَعْرِفَةً الْمُنَاوِلُ، فَيَرْوِي مِنْهُ أَوْ مِنْ فَرْعِهِ بَعْدُ‏.‏ بَلْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ‏:‏ إِنَّهُ فِي الْكِتَابِ الْمَشْهُورِ؛ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، كَصُورَةِ التَّمْلِيكِ أَوِ الْإِعَارَةِ- انْتَهَى‏.‏

إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَدْ قَالَ السُّهَيْلِيُّ‏:‏ جَعَلَ النَّاسُ الْمُنَاوَلَةَ الْيَوْمَ أَنْ يَأْتِيَ الطَّالِبُ الشَّيْخَ فَيَقُولَ‏:‏ نَاوِلْنِي كِتَابَكَ، فَيُنَاوِلُهُ، ثُمَّ يُمْسِكُهُ سَاعَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الطَّالِبُ فَيَقُولُ‏:‏ حَدَّثَنِي فُلَانٌ مُنَاوَلَةً، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ لَا تَصِحُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى يَذْهَبَ بِالْكِتَابِ مَعَهُ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ عَنْهُ بِمَا فِيهِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِاقْتِرَانِهِ بِالْإِجَازَةِ، فَيَكُونُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، أَوْ ‏[‏تَجَرُّدِهِ عَنْهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَيَكُونُ مِنْ ثَانِي النَّوْعَيْنِ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ عَلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ‏]‏‏.‏

وَ‏(‏أَمَّا‏)‏ الثَّانِيَةُ ‏(‏إِذَا مَا‏)‏ أَيْ‏:‏ إِذَا ‏(‏الشَّيْخُ لَمْ يَنْظُرْ مَا أَحْضَرَهُ‏)‏ إِلَيْهِ الطَّالِبُ مِمَّا ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ مَرْوِيُّهُ ‏[‏لِيَعْلَمَ صِحَّتَهُ وَيَتَحَقَّقَ أَنَّهُ مِنْ مَرْوِيِّهِ‏]‏، وَ‏(‏لَكِنْ‏)‏ نَاوَلَهُ لَهُ ‏(‏وَاعْتَمَدْ‏)‏ فِي صِحَّتِهِ وَثُبُوتِهِ فِي مَرْوِيِّهِ ‏(‏مَنْ أَحْضَرَ الْكِتَابَ وَهْوَ‏)‏ أَيِ‏:‏ الطَّالِبُ الْمُحْضِرُ ‏(‏مُعْتَمَدْ‏)‏ لِإِتْقَانِهِ وَثِقَتِهِ، فَقَدْ ‏(‏صَحَّ‏)‏ ذَلِكَ كَمَا يَصِحُّ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الطَّالِبِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْقَارِئُ مِنَ الْأَصْلِ إِذَا كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ مَعْرِفَةً وَدِينًا، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ الصَّلَاحِ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ التَّفْرِقَةَ، فَإِنَّهُ رَوَى مِنْ طَرِيقِ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَتْ‏:‏ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ‏:‏ لَا بَأْسَ بِهَا إِذَا كَانَ رَجُلٌ يَعْرِفُ وَيَفْهَمُ، قُلْتُ لَهُ‏:‏ فَالْمُنَاوَلَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا أَدْرِي مَا هَذَا حَتَّى يَعْرِفَ الْمُحَدِّثُ حَدِيثَهُ، وَمَا يُدْرِيهِ مَا فِي الْكِتَابِ‏؟‏

وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَلَوْ كَانَ الْمُحْضِرُ ذَا مَعْرِفَةٍ وَفَهْمٍ لَا يَكْفِي، قَالَ‏:‏ وَأَهْلُ مِصْرَ يَذْهَبُونَ إِلَى هَذَا، وَأَنَا لَا يُعْجِبُنِي‏.‏ قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَأَرَاهُ عَنَى- يَعْنِي بِمَا نَسَبَهُ لِأَهْلِ مِصْرَ- الْمُنَاوَلَةَ لِلْكِتَابِ وَإِجَازَتَهُ رِوَايَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ مَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِهِ أَمْ لَا، وَحَمَلَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِالْكِتَابِ فَيُقَالُ لَهُ‏:‏ يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا كِتَابُكَ نَرْوِيهِ عَنْكَ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ، وَمَا رَآهُ وَلَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ نَظَرُهُ لَهُ، وَعَرَفَ صِحَّتَهُ وَأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَجَاءَ بِهِ إِلَيْهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَجَازَ الْإِذْنَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْشُرَهُ وَيَنْظُرَ فِيهِ، وَيُؤَيِّدَهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَصَفَّحُ الْكِتَابَ وَيَنْظُرُ فِيهِ، وَكَذَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنْ هِشَامِ بْنَ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ جَاءَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ بِصَحِيفَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَقَالَ لِي‏:‏ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، هَذِهِ أَحَادِيثُ أَرْوِيهَا عَنْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ أَيْ‏:‏ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّالِبُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ، وَلَا يُوثَقُ بِخِبْرَتِهِ، فَقَدْ ‏(‏بَطَلَ‏)‏ الْإِذْنُ ‏(‏اسْتِيقَانَا‏)‏، وَلَمْ تَصِحَّ الْإِجَازَةُ فَضْلًا عَنِ الْمُنَاوَلَةِ‏.‏

نَعَمْ، إِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ مُعْتَمَدٍ صِحَّتُهُ وَثُبُوتُهُ فِي مَرْوِيِّهِ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ‏:‏ الصِّحَّةُ أَخْذًا مِنَ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مَا كُنَّا نَخْشَى مِنْ عَدَمِ ثِقَةِ الطَّالِبِ الْمُخْبِرِ مَعَ إِمْكَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ إِمَّا ‏(‏إِنْ يَقُلْ‏)‏ أَيِ‏:‏ الشَّيْخُ لِلطَّالِبِ الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرِهِ‏:‏ ‏(‏أَجَزْتُهُ إِنْ كَانَا ذَا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمُجَازُ بِهِ ‏(‏مِنْ حَدِيثِي‏)‏ مَعَ بَرَاءَتِي مِنَ الْغَلَطِ وَالْوَهْمِ ‏(‏فَهْوَ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْقَوْلُ ‏(‏فِعْلٌ‏)‏ جَائِزٌ ‏(‏حَسَنُ‏)‏ كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ‏.‏

وَمِمَّنْ فَعَلَهُ مَالِكٌ؛ فَإِنَّ ابْنَ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ كُنَّا عِنْدَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَكْتُبُ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَذِهِ الْكُتُبُ مِنْ حَدِيثِكَ أُحَدِّثُ بِهَا عَنْكَ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ‏:‏ إِنْ كَانَتْ مِنْ حَدِيثِي فَحَدِّثْ بِهَا عَنِّي، وَكَذَا فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَزَادَ النَّاظِمُ أَنَّهُ ‏(‏يُفِيدُ حَيْثُ وَقَعَ التَّبَيُّنُ‏)‏ لِصِحَّةِ كَوْنِهِ مِنْ حَدِيثِ الشَّيْخِ‏.‏

وَالنَّوْعُ الثَّانِي‏:‏ ‏(‏إِنْ خَلَتْ مِنْ إِذْنِ الْمُنَاوَلَهْ‏)‏ بِأَنْ يُنَاوِلَ الشَّيْخُ الطَّالِبَ شَيْئًا مِنْ مَرْوِيِّهِ مِلْكًا أَوْ عَارِيَةً لِيَنْتَسِخَ مِنْهُ، أَوْ يَأْتِيَ إِلَى الشَّيْخِ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ فَيَتَصَفَّحُهُ وَيَنْظُرُ فِيهِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا‏:‏ هَذَا مِنْ رِوَايَاتِي عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوحِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ لَا يُصَرِّحُ لَهُ بِالْإِذْنِ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا فَ‏(‏قِيلَ‏)‏ كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ‏:‏ ‏(‏تَصِحُّ‏)‏ وَتَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا؛ كَالرَّجُلِ يَجِيءُ إِلَى آخَرَ بِصَكٍّ فِيهِ ذِكْرُ حَقٍّ، فَيَقُولُ لَهُ‏:‏ أَتَعْرِفُ هَذَا الصَّكَّ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ، هُوَ دَيْنٌ عَلَيَّ لِفُلَانٍ، أَوْ يَقُولُ لَهُ ابْتِدَاءً‏:‏ فِي هَذَا الصَّكِّ دَيْنٌ عَلَيَّ لِفُلَانٍ، أَوْ يَجِدُ فِي يَدِهِ صَكًّا يَقْرَؤُهُ، فَيَقُولُ لَهُ‏:‏ مَا فِي هَذَا الصَّكِّ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ ذِكْرُ حَقٍّ عَلَيَّ لِفُلَانٍ، ثُمَّ يَسْمَعُهُ بَعْدُ يُنْكِرُهُ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أَدَائِهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ‏.‏

وَإِذَا جَازَ فِي الشَّهَادَةِ بِدُونِ إِذْنِ الْمُقِرِّ فَفِي الرِّوَايَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُجِيزُ الرِّوَايَةَ بِمُجَرَّدِ إِعْلَامِ الشَّيْخِ الطَّالِبَ بِأَنَّ هَذَا مَرْوِيَّهُ، أَوِ الرِّوَايَةَ بِمُجَرَّدِ إِرْسَالِهِ إِلَيْهِ بِالْكِتَابِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِيهِمَا، بَلْ هُوَ هُنَا أَوْلَى لِتَرَجُّحِهِ بِزِيَادَةِ الْمُنَاوَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَسْأَلَةِ الْإِعْلَامِ، وَبِالْمُوَاجَهَةِ بِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِرْسَالِ؛ فَإِنَّ الْمُنَاوَلَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ لَا تَخْلُو مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْإِذْنِ فِي الرِّوَايَةِ، فَحَصَلَ الِاكْتِفَاءُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا بِالْقَرِينَةِ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ‏:‏ إِنَّهَا قَرِيبٌ مِنَ السَّمَاعِ عَلَى الشَّيْخِ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلْمِ بِالْمَرْوِيِّ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهَا دُونَ الرِّوَايَةِ‏.‏ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْزَاعِيُّ قَائِلًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ الْمُنَاوَلَةَ وَفَعَلَهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهَا وَلَا يُحَدِّثُ بِهَا، فَقَالَ عِيَاضٌ‏:‏ وَلَعَلَّ قَوْلَهُ، يَعْنِي‏:‏ الثَّانِيَ، فِيمَنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْحَدِيثِ بِهِ عَنْهُ‏.‏

‏(‏وَالْأَصَحُّ‏)‏ أَنَّهَا بِدُونِ إِذْنٍ ‏(‏بَاطِلَهْ‏)‏، لَمْ نَرَ- كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ- مَنْ فَعَلَهَا لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ فِيهَا، فَلَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ وَعَابَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ تَجْوِيزَهَا وَإِسَاغَةَ الرِّوَايَةِ بِهَا، قُلْتُ‏:‏ مِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى‏:‏ مُجَرَّدُ الْمُنَاوَلَةِ دُونَ قَوْلِهِ‏:‏ حَدِّثْ بِهِ عَنِّي، لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِذَا قَالَ‏:‏ حَدِّثْ بِهِ عَنِّي، فَلَا مَعْنَى لِلْمُنَاوَلَةِ، بَلْ هُوَ زِيَادَةُ تَكَلُّفٍ أَخَذَ بِهِ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ بِلَا فَائِدَةٍ، بَلْ أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي تَقْرِيبِهِ حِكَايَةَ الْبُطْلَانِ عَنِ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْأُصُولِ، ‏[‏وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ السَّيْفِ الْآمِدِيِّ؛ حَيْثُ اشْتَرَطَ الْإِذْنَ فِي الرِّوَايَةِ‏]‏، وَلَكِنَّ صَنِيعَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي عَدَمِ التَّعْمِيمِ أَحْسَنُ؛ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ- مِنْهُمُ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُولِ- الْإِذْنَ، بَلْ وَلَا الْمُنَاوَلَةَ، حَتَّى قَالُوا‏:‏ إِنَّ الشَّيْخَ لَوْ أَشَارَ إِلَى كِتَابٍ وَقَالَ‏:‏ هَذَا سَمَاعِي مِنْ فُلَانٍ، جَازَ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ، سَوَاءٌ نَاوَلَهُ إِيَّاهُ أَمْ لَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، وَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ‏:‏ ارْوِهِ عَنِّي، أَمْ لَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ سِوَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَتْبَاعِهِ، وَوَجَّهَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنَاوِلَ الْكِتَابَ الَّذِي يَشُكُّ فِيمَا فِيهِ، وَقَدْ يَصِحُّ عِنْدَ الْغَيْرِ مِنْ حَدِيثِهِ مَا يُعْتَقَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحَدِّثُ بِهِ لِعِلَلٍ فِي حَدِيثِهِ هُوَ أَعْرَفُ بِهَا، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَتَحَمَّلُ الشَّهَادَةَ مَنْ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يُقِيمَهَا، وَلَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ كَانَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ أَدَائِهِ لَهَا، وَعَلِمَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ عَلَى صِفَةٍ تَجُوزُ إِقَامَتُهُ لَهَا، فَكَذَلِكَ الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ مِنَ الْعَدْلِ الثِّقَةِ- انْتَهَى‏.‏

وَقَدْ مَالَ شَيْخُنَا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَبَيْنَ ثَانِي النَّوْعَيْنِ أَيْضًا مِنَ الْقِسْمِ بَعْدَهُ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِي فَرْقٌ قَوِيٌّ بَيْنَهُمَا إِذَا خَلَا كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْإِذْنِ‏.‏

كَيْفَ يَقُولُ مَنْ رَوَى بِالْمُنَاوَلَةِ وَبِالْإِجَازَةِ‏؟‏

516- وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَوَى مَا نُووِلَا *** فَمَالِكٌ وَابْنُ شِهَابٍ جَعَلَا

517- إِطْلَاقَهُ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَا *** يَسُوغُ وَهْوَ لَائِقٌ بِمَنْ يَرَى

518- الْعَرْضَ كَالسَّمَاعِ بَلْ أَجَازَهْ *** بَعْضُهُمُ فِي مُطْلَقِ الْإِجَازَهْ

519- وَالْمَرْزُبَانِي وَأَبُو نُعَيْمِ *** أَخْبَرَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْقَوْمِ

520- تَقْيِيدُهُ بِمَا يُبِينُ الْوَاقِعَا *** إِجَازَةً تَنَاوُلًا هُمَا مَعَا

521- أَذِنَ لِي، أَطْلَقَ لِي، أَجَازَنِي *** سَوَّغَ لِي، أَبَاحَ لِي، نَاوَلَنِي

522- وَإِنْ أَبَاحَ الشَّيْخُ لِلْمُجَازِ *** إِطْلَاقَهُ لَمْ يَكْفِ فِي الْجَوَازِ

523- وَبَعْضُهُمْ أَتَى بِلَفْظٍ مُوهِمْ *** شَافَهَنِي، كَتَبَ لِي، فَمَا سَلِمْ

524- وَقَدْ أَتَى بِخَبَّرَ الْأَوْزَاعِي *** فِيهَا وَلَمْ يَخْلُ مِنَ النِّزَاعِ

525- وَلَفْظُ ‏"‏ أَنَّ ‏"‏ اخْتَارَهُ الْخَطَّابِي *** وَهْوَ مَعَ الْإِسْنَادِ ذُو اقْتِرَابِ

526- وَبَعْضُهُمْ يَخْتَارُ فِي الْإِجَازَهْ *** أَنْبَأَنَا كَصَاحِبِ الْوِجَازَهْ

527- وَاخْتَارَهُ الْحَاكِمُ فِيمَا شَافَهَهْ *** بِالْإِذْنِ بَعْدَ عَرْضِهِ مُشَافَهَهْ

528- وَاسْتَحْسَنُوا لِلْبَيْهَقِيِّ مُصْطَلَحَا *** أَنْبَأَنَا إِجَازَةً فَصَرَّحَا

529- وَبَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ اسْتَعْمَلَ ‏"‏ عَنْ ‏"‏ *** إِجَازَةً وَهْيَ قَرِيبَةٌ لِمَنْ

530- سَمَاعُهُ مِنْ شَيْخِهِ فِيهِ يَشُكْ *** وَحَرْفُ ‏"‏ عَنْ ‏"‏ بَيْنَهُمَا فَمُشْتَرَكْ

531- وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ لِي فَجَعَلَهْ *** حِيرِيُّهُمْ لِلْعَرْضِ وَالْمُنَاوَلَهْ

‏(‏كَيْفَ يَقُولُ مَنْ رَوَى‏)‏ مَا تَحَمَّلَهُ ‏(‏بِالْمُنَاوَلَةِ وَبِالْإِجَازَةِ‏)‏ الْمَاضِيَيْنِ ‏(‏وَاخْتَلَفُوا‏)‏ أَيِ‏:‏ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ ‏(‏فِي‏)‏ مَا يَقُولُ ‏(‏مَنْ رَوَى مَا نُووِلَا‏)‏ الْمُنَاوَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ مِمَّا تَقَدَّمَ ‏(‏فَمَالِكٌ‏)‏، هُوَ ابْنُ أَنَسٍ ‏(‏وَابْنُ شِهَابٍ‏)‏ الزُّهْرِيُّ ‏(‏جَعَلَا إِطْلَاقَهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الرَّاوِي‏.‏

‏(‏حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَا‏)‏ أَيْ‏:‏ وَأَخْبَرَنَا ‏(‏يَسُوغُ وَهْوَ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْإِطْلَاقُ ‏(‏لَائِقٌ بِ‏)‏ مَذْهَبِ ‏(‏مَنْ يَرَى‏)‏ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ ‏(‏الْعَرْضَ‏)‏ فِي الْمُنَاوَلَةِ ‏(‏كَ‏)‏ عَرْضِ ‏(‏السَّمَاعِ‏)‏‏.‏ وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْإِطْلَاقَ عَنْ مَالِكٍ الْخَطِيبُ، وَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ قُلْ مَا شِئْتَ مِنْ ثَنَا وَأَنَا‏.‏

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَسَعُهُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ‏.‏

وَاجْتَمَعَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنِي، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِيمَنْ رَوَى الْكِتَابَ، بَعْضَهُ قِرَاءَةً وَبَعْضَهُ تَحْدِيثًا وَبَعْضَهُ مُنَاوَلَةً وَبَعْضَهُ إِجَازَةً، أَنَّهُ يَقُولُ فِي كُلِّهِ‏:‏ أَنَا ‏(‏بَلْ أَجَازَهْ‏)‏ أَيْ‏:‏ إِطْلَاقَهُمَا ‏(‏بَعْضُهُمُ‏)‏ كَابْنِ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، حَسْبَمَا عَزَاهُ إِلَيْهِمْ عِيَاضٌ، وَكَمَالِكٍ أَيْضًا وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْوِجَازَةِ ‏(‏فِي مُطْلَقِ‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي الرِّوَايَةِ بِمُطْلَقِ ‏(‏الْإِجَازَهْ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ، حَتَّى قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ مَذْهَبُ عَامَّةِ حُفَّاظِ الْأَنْدَلُسِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَيَقُولُونَ فِيمَا يُجَازُ‏:‏ حَدَّثَنَا وَأَنَا‏.‏

وَعَنْ عِيسَى بْنِ مِسْكِينٍ قَالَ‏:‏ الْإِجَازَةُ رَأْسُ مَالٍ كَبِيرٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ فِيهَا‏:‏ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي‏.‏ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ‏:‏ إِنَّ الْإِجَازَةَ كَيْفَ مَا كَانَتْ إِخْبَارٌ وَتَحْدِيثٌ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا، وَالِاتِّصَالُ السَّنَدِيُّ وَاقِعٌ بِهِ؛ إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ نَوْعَيِ الْإِجَازَةِ وَالسَّمَاعِ طَرِيقُ تَحَمُّلٍ، وَالتَّعَرُّضُ لِتَعْيِينِ النَّوْعِ الْمُتَحَمَّلِ بِهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَلَا الْعَمَلُ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ الطُّبُنِيُّ‏:‏ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِجَازَةِ بِالْمُعَيَّنِ‏:‏ حَدَّثَنِي‏.‏

وَذَهَبَ إِلَى جَوَازِهِ كَذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، مُحْتَجًّا لَهُ بِأَنَّ مَدْلُولَ التَّحْدِيثِ لُغَةً‏:‏ إِلْقَاءُ الْمَعَانِي إِلَيْكَ، سَوَاءٌ أَلْقَاهُ لَفْظًا أَوْ كِتَابَةً أَوْ إِجَازَةً، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ حَدِيثًا حَدَّثَ بِهِ الْعِبَادَ وَخَاطَبَهُمْ بِهِ، فَكُلُّ مُحَدِّثٍ أَحْدَثَ إِلَيْكَ شِفَاهًا أَوْ بِكِتَابٍ أَوْ بِإِجَازَةٍ فَقَدْ حَدَّثَكَ بِهِ، وَأَنْتَ صَادِقٌ فِي قَوْلِكَ‏:‏ حَدَّثَنِي، وَيُسَمَّى الْوَاقِعُ فِي الْمَنَامِ حَدِيثًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ‏)‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 21‏]‏‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ كَذَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدٍ ‏(‏الْمَرْزُبَانِيُّ‏)‏ بِضَمٍ الزَّايِ نِسْبَةً لِجَدٍّ لَهُ اسْمُهُ الْمَرْزُبَانُ الْبَغْدَادِيُّ، صَاحِبُ أَخْبَارٍ وَرِوَايَةٍ لِلْأَدَبِ وَتَصَانِيفَ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ فِي دَارِهِ خَمْسُونَ مَا بَيْنَ لِحَافٍ وَمِحْبَرَةٍ لِمَنْ يَبِيتُ عِنْدَهُ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ‏(‏348هـ‏)‏‏.‏

‏(‏وَأَبُو نُعَيْمِ‏)‏ الْأَصْبِهَانِيُّ الْحَافِظُ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، أَطْلَقَا فِي الْإِجَازَةِ لَفْظَ ‏(‏أَخْبَرَ‏)‏ أَيْ‏:‏ أَخْبَرَنَا، خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْهُمَا الْخَطِيبُ، وَعَنْ ثَانِيهِمَا فَقَطْ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ، وَحَكَى الْخَطِيبُ أَنَّ أَوَّلَهُمَا عِيبَ بِذَلِكَ، وَكَذَا نَقَلَ ابْنُ طَاهِرٍ ثُمَّ الذَّهَبِيُّ فِي مِيزَانِهِ عَنِ الْخَطِيبِ أَنَّهُ عَابَ ثَانِيَهُمَا أَيْضًا بِهِ، فَقَالَ‏:‏ رَأَيْتُ لِأَبِي نُعَيْمٍ أَشْيَاءَ يَتَسَاهَلُ فِيهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِجَازَةِ‏:‏ أَنَا، مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ‏.‏ بَلْ أَدْخَلَهُ لِذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ثُمَّ الذَّهَبِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ مَذْهَبٌ رَآهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، قَالَ‏:‏ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّدْلِيسِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أَمَّا عَيْبُ الْأَوَّلِ بِهِ فَظَاهِرٌ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يُبَيِّنِ اصْطِلَاحَهُ، وَأَكْثَرَ مَعَ ذَلِكَ مِنْهُ، بِحَيْثُ أَنَّ أَكْثَرَ مَا أَوْرَدَهُ فِي كُتُبِهِ بِالْإِجَازَةِ لَا السَّمَاعِ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رُمِيَ بِالِاعْتِزَالِ، وَبِأَنَّهُ كَانَ يَضَعُ الْمِحْبَرَةَ وَقِنِّينَةَ النَّبِيذِ وَلَا يَزَالُ يَكْتُبُ وَيَشْرَبُ‏.‏

وَأَمَّا ثَانِيهِمَا فَبَعْدَ بَيَانِ اصْطِلَاحِهِ لَا يَكُونُ مُدَلِّسًا، وَلِذَا قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ‏:‏ سَخَّمَ اللَّهُ وَجْهَ مَنْ يَعِيبُهُ بِهَذَا، بَلْ هُوَ الْإِمَامُ عَالِمُ الدُّنْيَا‏.‏ وَقَالَ شَيْخُنَا‏:‏ إِنَّهُمْ وَإِنْ عَابُوهُ بِذَلِكَ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ لَهُ خَالَفَ فِيهِ الْجُمْهُورَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يَقُولَ فِي السَّمَاعِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَرَأَ بِنَفْسِهِ أَوْ سَمِعَ مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ، أَوْ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ عَلَى شَيْخِهِ‏:‏ ثَنَا، بِلَفْظِ التَّحْدِيثِ فِي الْجَمِيعِ، وَيَخُصُّ الْإِخْبَارَ بِالْإِجَازَةِ، يَعْنِي كَمَا صَرَّحَ هُوَ بِاصْطِلَاحِهِ؛ حَيْثُ قَالَ‏:‏ إِذَا قُلْتُ‏:‏ أَنَا، عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَذْكُرَ فِيهِ إِجَازَةً أَوْ كِتَابَةً أَوْ كُتِبَ لِي أَوْ أُذِنَ لِي، فَهُوَ إِجَازَةٌ، أَوْ ثَنَا فَهُوَ سَمَاعٌ، وَيُقَوِّي الْتِزَامَهُ لِذَلِكَ أَنَّهُ أَوْرَدَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ لِلْحَاكِمِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ رَوَاهَا عَنِ الْحَاكِمِ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ مُطْلَقًا، وَقَالَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ‏:‏ الَّذِي رَوَيْتُهُ عَنِ الْحَاكِمِ بِالْإِجَازَةِ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْإِخْبَارَ عَلَى اصْطِلَاحِهِ عُرِفَ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِجَازَةَ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِئَلَا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ- انْتَهَى‏.‏

وَمَعَ كَوْنِهِ بَيَّنَ اصْطِلَاحَهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ‏:‏ إِنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُهُ نَادِرًا؛ لِاسْتِغْنَائِهِ بِكَثْرَةِ الْمَسْمُوعَاتِ الَّتِي عِنْدَهُ، فَقَدْ قَرَأْتُ مُسْتَخْرَجَهُ عَلَى مُسْلِمٍ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ شَيْئًا بِالْإِجَازَةِ، إِلَّا مُوَيْضِعَاتٍ يَسِيرَةً، حَدِيثًا عَنِ الْأَصَمِّ، وَآخَرَ عَنْ خَيْثَمَةَ، وَعَنْ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا اعْتَذَرَ عَنْهُ غَيْرُهُ بِالنُّدُورِ، وَكَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ أَيْضًا مُشْعِرٌ بِهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ هَذَا لَا يَنْقُصُهُ شَيْئًا؛ إِذْ هُوَ يَقُولُ فِي مُعْظَمِ تَصَانِيفِهِ‏:‏ أَخْبَرَنَا فُلَانٌ إِجَازَةً،

قَالَ‏:‏ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُطْلِقَ فِي الْإِجَازَةِ أَنَا بِدُونِ بَيَانٍ فَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لَهُ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا جَوَّزَ أَنَّ الْحَافِظَ أَبَا نَصْرٍ أَحْمَدَ بْنَ عُمَرَ الْغَازِيَّ الْأَصْبِهَانِيَّ مِمَّنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَافِظَ بْنَ السَّمْعَانِيِّ لَمَّا قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ لَا يُفَرِّقُ السَّمَاعَ مِنَ الْإِجَازَةِ، قَالَ الذَّهَبِيُّ‏:‏ يُرِيدُ أَنَّ السَّمَاعَ وَالْإِجَازَةَ سَوَاءٌ فِي الِاتِّصَالِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ، وَإِلَّا فَمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ يُرِيدُ- أَيْ‏:‏ يَفْهَمُ- أَنَّ السَّمَاعَ شَيْءٌ، وَالْإِجَازَةَ شَيْءٌ‏.‏

قَالَ شَيْخُنَا‏:‏ مَا أَظُنُّهُ أَرَادَ مَا فَهِمَهُ الذَّهَبِيُّ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ لَا يُمَيِّزُ هَذَا مِنْ هَذَا، بَلْ يَقُولُ مَثَلًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا‏:‏ أَنَا، وَلَا يُعَيِّنُ فِي الْإِجَازَةِ كَوْنَهَا إِجَازَةً- انْتَهَى‏.‏

وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ كَانَ يَقُولُ فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ مَشَايِخِهِ بَلْ رَوَاهُ إِجَازَةً‏:‏ أَخْبَرَنَا فُلَانٌ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُولُ‏:‏ وَأَنَا أَسْمَعُ، فَيَشْتَدُّ الِالْتِبَاسُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْحَالِ‏.‏

وَفِي تَأْرِيخِ أَصْبَهَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ‏:‏ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ‏.‏ بَلْ وَكَذَا فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْأَصْبِهَانِيِّ مِنَ الْحِلْيَةِ لَهُ‏:‏ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، زَادَ فِيهَا‏:‏ وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ‏.‏ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِمَّا يَتَّضِحُ بِهَا الْمُرَادُ؛ فَإِنَّهَا تُشْعِرُ أَنَّهُ رَوَاهُ عَالِيًا عَنِ الْأَوَّلِ إِجَازَةً، وَبِنُزُولٍ عَنِ الثَّانِي سَمَاعًا‏.‏ وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ مِنَ الْحِلْيَةِ أَيْضًا‏:‏ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ وَأَذِنَ لِي فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ حَكَى ابْنُ طَاهِرٍ فِي أَطْرَافِ الْأَفْرَادِ هَذَا الْمَذْهَبَ أَيْضًا عَنْ شَيْخِهِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ لَهُمَا غَرِيبٌ، وَكَأَنَّ النُّكْتَةَ فِي التَّصْرِيحِ عَنْ شَيْخِهِ بِذَلِكَ اعْتِمَادُهُ الْمَرْوِيَّ، ‏(‏وَالصَّحِيحُ‏)‏ الْمُخْتَارُ ‏(‏عِنْدَ‏)‏ جُمْهُورِ ‏(‏الْقَوْمِ‏)‏، وَهُوَ مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الشَّرْقِ، وَاخْتَارَ أَهْلُ التَّحَرِّي وَالْوَرَعِ الْمَنْعَ مِنْ إِطْلَاقِ كُلٍّ مِنْ ثَنَا وَأَنَا وَنَحْوِهِمَا فِي الْمُنَاوَلَةِ وَالْإِجَازَةِ؛ خَوْفًا مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْكَامِلِ، وَ‏(‏تَقْيِيدُهُ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمَذْكُورِ مِنْهَا ‏(‏بِمَا يُبِينُ‏)‏ أَيْ‏:‏ يُوَضِّحُ ‏(‏الْوَاقِعَا‏)‏ فِي كَيْفِيَّةِ التَّحَمُّلِ مِنَ السَّمَاعِ، أَوِ الْإِجَازَةِ، أَوِ الْمُنَاوَلَةِ، بِلَفْظٍ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنِ الْآخَرِ، كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ أَنَا أَوْ ثَنَا فُلَانٌ ‏(‏إِجَازَةً‏)‏، أَوْ أَنَا أَوْ ثَنَا ‏(‏تَنَاوُلًا‏)‏، أَوْ ‏(‏هُمَا مَعَا‏)‏ أَيْ‏:‏ إِجَازَةَ مُنَاوَلَةٍ، أَوْ فِيمَا ‏(‏أَذِنَ لِي‏)‏، أَوْ فِيمَا ‏(‏أَطْلَقَ لِي‏)‏ رِوَايَتَهُ عَنْهُ، أَوْ فِيمَا ‏(‏أَجَازَنِي‏)‏، أَوْ فِيمَا ‏(‏سَوَّغَ لِي‏)‏، أَوْ فِيمَا ‏(‏أَبَاحَ لِي‏)‏، أَوْ فِيمَا ‏(‏نَاوَلَنِي‏)‏‏.‏

قَالَ الْخَطِيبُ‏:‏ وَقَدْ كَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ يَقُولُ فِي الْمُنَاوَلَةِ‏:‏ أَعْطَانِي فُلَانٌ أَوْ دَفَعِ إِلَيَّ كِتَابَهُ، وَشَبِيهًا بِهَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي نَسْتَحْسِنُهُ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ التَّقْيِيدِ أَيْضًا، وَإِلَيْهِ مَيْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ فِيهَا؛ أَيْ‏:‏ فِي الْإِجَازَةِ، أَنَا لَا بِالْإِطْلَاقِ وَلَا بِالتَّقْيِيدِ؛ لِبُعْدِ دَلَالَةِ لَفْظِ الْإِجَازَةِ عَنِ الْإِخْبَارِ؛ إِذْ مَعْنَاهَا فِي الْوَضْعِ الْإِذْنُ فِي الرِّوَايَةِ- انْتَهَى، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ فِي أَوَّلِ ثَالِثِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ‏.‏

وَمِمَّنْ كَانَ يَسْلُكُ التَّقْيِيدَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْخَلَّالُ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ ‏(‏اشْتِقَاقِ الْأَسْمَاءِ‏)‏‏:‏ أَنَا فُلَانٌ إِجَازَةً، وَكَذَا أَجَازَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيَّ أَخْبَرَهُمْ‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ‏:‏ مِمَّا يَحْسُنُ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ لِلتَّقْيِيدِ هُنَا أَيْضًا، إِنْ أَلْجَأَتْ ضَرُورَةٌ مَنْ يُرِيدُ تَخْرِيجَ حَدِيثٍ فِي بَابٍ وَلَمْ يَجِدْ مَسْلَكًا سِوَاهُ، أَعْنِي الرِّوَايَةَ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ، اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَحَرَّرَ أَلْفَاظَهُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ إِجَازَةً عَامَّةً، أَوْ فِيمَا أَجَازَ مَنْ أَدْرَكَ حَيَاتَهُ، أَوْ يَحْكِي لَفْظَ الْمُجِيزِ فِي الرِّوَايَةِ، فَيَتَخَلَّصُ عَنْ غَوَائِلِ التَّدْلِيسِ وَالتَّشَبُّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُقْتَدِيًا، وَلَا يُعَدُّ مُفْتَرِيًا- انْتَهَى‏.‏

وَإِذَا كَانَ الْإِطْلَاقُ فِي الْعَامَّةِ مَعَ الِاضْطِرَارِ لِلرِّوَايَةِ بِهَا يُعَدُّ فَاعِلُهُ مُفْتَرِيًا، فَمَا بَالُكَ بِمَنِ الْوَقْتُ فِي غُنْيَةٍ عَنْ تَحْدِيثِهِ لَوْ سَمِعَ لَفْظًا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُقِلًّا مِنَ الْمَسْمُوعِ وَالشُّيُوخِ، وَيَرْوِي بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَلَا إِفْصَاحٍ ‏(‏وَإِنْ أَبَاحَ الشَّيْخُ‏)‏ الْمُجِيزُ ‏(‏لِلْمُجَازِ‏)‏ لَهُ ‏(‏إِطْلَاقَهُ‏)‏ ثَنَا أَوْ أَنَا فِي الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْإِجَازَةِ الْخَاصَّةِ فَضْلًا عَنِ الْعَامَّةِ كَمَا فَعَلَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمَشَايِخِ فِي إِجَازَاتِهِمْ؛ حَيْثُ قَالُوا لِمَنْ أَجَازُوا لَهُ‏:‏ إِنْ شَاءَ قَالَ‏:‏ ثَنَا، وَإِنْ شَاءَ قَالَ‏:‏ أَنَا‏.‏ وَوُجِدَ ذَلِكَ كَمَا حُكِيَ عَنْ شَيْخِنَا، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي إِجَازَاتِ الْمَغَارِبَةِ ‏(‏لَمْ يَكْفِ‏)‏ ذَلِكَ ‏(‏فِي الْجَوَازِ‏)‏، وَإِنْ عَلَّلَ ابْنُ الصَّلَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ التَّفْرِيعَاتِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ الْمَنْعَ مِنْ إِبْدَالِ ثَنَا بِأَخْبَرَنَا وَعَكْسَهُ، بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الرَّاوِي عَدَمَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ؛ لِتَعَقُّبِ الْمُصَنِّفِ لَهُ هُنَاكَ مِنْ نُكَتِهِ، بِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْجَائِزِ وَالْمُمْتَنِعِ بِكَوْنِ الشَّيْخِ يَرَى الْجَائِزَ مُمْتَنِعًا، وَالْمُمْتَنِعَ جَائِزًا‏.‏

فَرْعٌ‏:‏ لَوْ قَرَأَ عَلَى شَيْخٍ شَيْئًا بِالْإِجَازَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا مِنْ شَيْخِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَمِعَهُ، فَالْأَحْسَنُ حِكَايَةُ الْوَاقِعِ بِأَنْ يَقُولَ‏:‏ إِجَازَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا، ثُمَّ ظَهَرَ سَمَاعُهُ، كَمَا وَقَعَ لِأَبِي زُرْعَةَ الْمَقْدِسِيِّ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَلِلصَّلَاحِ بْنِ أَبِي عُمَرَ فِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ مِنْ مُسْنَدِ أَحْمَدَ؛ حَيْثُ أَخْبَرَ فِيهَا كَذَلِكَ، لِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْأَصْلِ فِيهَا، ثُمَّ ظَهَرَ سَمَاعُهُ لَهَا، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ‏:‏ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ، وَلَكِنِ اتَّفَقَ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ السَّمَاعِ كَافٍ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالْمِزِّيُّ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ عَاصَرَهُمَا؛ كَابْنِ الْمُحِبِّ شَيْخِ شُيُوخِنَا، وَنَحْوُهُ إِخْبَارُ الزَّيْنِ ابْنِ الشَّيْخَةِ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْحَجَّارِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ لَهُ مِنْهُ إِجَازَةً خَاصَّةً‏.‏ ‏(‏وَبَعْضُهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَا مَضَى كَالْحَاكِمِ؛ حَيْثُ ‏(‏أَتَى بِلَفْظٍ مُوهِمْ‏)‏ تَجَوُّزًا فِيمَا أَجَازَهُ فِيهِ شَيْخُهُ بِلَفْظِهِ شَفَاهًا، وَهُوَ أَنَا فُلَانٌ مُشَافَهَةً، أَوْ ‏(‏شَافَهَنِي‏)‏ فُلَانٌ، وَفِيمَا أَجَازَهُ بِهِ شَيْخُهُ بِكِتَابِهِ أَنَا فُلَانٌ كِتَابَةً، أَوْ مُكَاتَبَةً، أَوْ فِي كِتَابِهِ، أَوْ ‏(‏كَتَبَ لِي‏)‏، أَوْ إِلَيَّ، وَحَكَى الشِّقَّ الثَّانِيَ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، فَقَالَ ابْنُ النَّجَّارِ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْإِجَازَةِ‏:‏ حَدَّثَنِي فُلَانٌ فِي كِتَابِهِ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ إِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقُولُ‏:‏ أَنَا أَبُو الْمَيْمُونِ بْنُ رَاشِدٍ فِي كِتَابِهِ، وَكَتَبَ إِلَيَّ جَعْفَرٌ الْخَلَدِيُّ، وَكَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ‏.‏

وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ، وَإِنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا لِذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ بَعْدِ الْخَمْسِمِائَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا ‏(‏فَمَا سَلِمْ‏)‏ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا مُطْلَقًا مِنَ الْإِيهَامِ وَطَرَفٍ مِنَ التَّدْلِيسِ، أَمَّا الْمُشَافَهَةُ فَتُوهِمُ مُشَافَهَتَهُ بِالتَّحْدِيثِ، وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَتُوهِمُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْقِسْمِ الَّذِي يَلِيهِ‏.‏

وَلِذَا نَصَّ الْحَافِظُ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْهَمْدَانِيُّ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ هَذَا مُعَلِّلًا بِالْإِيهَامِ الْمَذْكُورِ ‏(‏وَقَدْ أَتَى بِخَبَّرَ‏)‏ بِالتَّشْدِيدِ أَبُو عَمْرٍو ‏(‏الْأَوْزَاعِيُّ فِيهَا‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي الْإِجَازَةِ خَاصَّةً، وَجَعَلَ ‏"‏ أَنَا ‏"‏ بِالْهَمْزَةِ لِلْقِرَاءَةِ ‏(‏وَلَمْ يَخْلُ‏)‏ أَيْضًا ‏(‏مِنَ النِّزَاعِ‏)‏ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَعْنَى خَبَّرَ وَأَخْبَرَ فِي اللُّغَةِ وَكَذَا الِاصْطِلَاحِ وَاحِدٌ، بَلْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ خَبَّرَ أَبْلَغُ‏.‏ وَكَانَ لِلْأَوْزَاعِيِّ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ بِالْمُنَاوَلَةِ اصْطِلَاحٌ، قَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ‏:‏ قُلْتُ لَهُ فِي الْمُنَاوَلَةِ‏:‏ أَقُولُ فِيهَا‏:‏ ثَنَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنْ كُنْتُ حَدَّثْتُكَ فَقُلْ‏:‏ ثَنَا، فَقُلْتُ‏:‏ فَمَا أَقُولُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْ‏:‏ قَالَ أَبُو عَمْرٍو، أَوْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو‏.‏

‏(‏وَلَفْظُ ‏"‏ أَنَّ ‏"‏‏)‏ بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ ‏(‏اخْتَارَهُ‏)‏، أَوْ حَكَاهُ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ حَمَدٌ ‏(‏الْخَطَّابِيُّ‏)‏ نِسْبَةً لِجَدِّهِ خَطَّابٍ، فَكَانَ يَقُولُ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ فِي الرِّوَايَةِ بِالسَّمَاعِ عَنِ الْإِجَازَةِ‏:‏ أَنَا فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ، قَالَ صَاحِبُ الْوِجَازَةِ‏:‏ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ ‏"‏ أَنَّ ‏"‏ دَلِيلًا عَلَى الْإِجَازَةِ فِي مَفْهُومِ اللُّغَةِ، وَقَدْ تَأَمَّلْتُهُ فَلَمْ أَجِدْ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ ‏"‏ أَنَّ ‏"‏ الْمَفْتُوحَةَ أَصْلُهَا التَّأْكِيدُ، وَمَعْنَى أَنَا فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُ، أَيْ‏:‏ بِأَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُ، فَدُخُولُ الْبَاءِ أَيْضًا لِلتَّأْكِيدِ، وَإِنَّمَا فُتِحَتْ لِأَنَّهَا صَارَتِ اسْمًا، فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْهُ كَانَتِ الْإِجَازَةُ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنَ السَّمَاعِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ قَارَنَهُ التَّأْكِيدُ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ- انْتَهَى‏.‏

وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَقَدْ سَبَقَ حِكَايَةُ تَفْضِيلِ الْإِجَازَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ، بَلْ لَمْ يَنْفَرِدِ الْخَطَّابِيُّ بِهَذَا الصَّنِيعِ؛ فَقَدْ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ اخْتِيَارِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، قَالَ‏:‏ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَحَقُّهُ أَنْ يُنْكِرَ، فَلَا مَعْنَى لَهُ يُتَفَهَّمُ مِنْهُ الْمُرَادُ، وَلَا اعْتِيدَ هَذَا الْوَضْعُ لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا اصْطِلَاحًا؛ وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ إِنَّهُ اصْطِلَاحٌ بَعِيدٌ، بَعِيدٌ عَنْ مَقَاصِدِ أَهْلِ الْأَفْكَارِ الْقَوْمِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الِاصْطِلَاحِ؛ لِبُعْدِهِ عَنِ الْإِشْعَارِ بِالْإِجَازَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَهْوَ مَعَ‏)‏ سَمَاعِ ‏(‏الْإِسْنَادِ‏)‏ خَاصَّةً لِشَيْخِهِ مِنْ شَيْخِهِ، وَكَوْنِ الْإِجَازَةِ لَهُ فِيمَا وَرَاءَ الْإِسْنَادِ؛ أَيْ‏:‏ مِنْ حَدِيثٍ وَنَحْوِهِ ‏(‏ذُو اقْتِرَابِ‏)‏؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ إِشْعَارًا بِوُجُودِ أَصْلِ الْإِخْبَارِ، وَإِنْ أَجْمَلَ الْخَبَرَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ تَفْصِيلًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الِاقْتِرَاحِ‏:‏ إِذَا أَخْرَجَ الشَّيْخُ الْكِتَابَ وَقَالَ‏:‏ أَنَا فُلَانٌ، ‏[‏وَسَاقَ السَّنَدَ، فَهَلْ يَجُوزُ لِسَامِعٍ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَنَا فُلَانٌ‏]‏، وَيَذْكُرَ الْأَحَادِيثَ كُلًّا أَوْ بَعْضًا‏؟‏ الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ؛ فَإِنَّهُ تَصْرِيحٌ بِالْإِخْبَارِ بِالْكِتَابِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ إِخْبَارٌ جُمْلِيٌّ، وَلَا فَرْقَ فِي مَعْنَى الصِّدْقِ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ‏.‏ نَعَمْ، فِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنْ لَا يُطْلَقَ الْإِخْبَارُ إِلَّا فِيمَنْ قُرِئَ، وَيُسَمَّى مِثْلُ هَذَا مُنَاوَلَةً، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِالْمُتَعَيَّنِ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ، فَإِنْ أَوْقَعَ تُهْمَةً فَقَدْ يُمْنَعُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ- انْتَهَى‏.‏

وَمَعَ الْقُرْبِ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَهُوَ يَلْتَبِسُ بِاصْطِلَاحِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ فِي أَنَّهُ إِذَا زَادَ فِي نَسَبِ شَيْخِ شَيْخِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخٍ يَأْتِي بِلَفْظِ‏:‏ ‏"‏ أَنَّ ‏"‏ ‏(‏وَبَعْضُهُمْ يَخْتَارُ فِي الْإِجَازَهْ‏)‏ لَفْظَ ‏(‏أَنْبَأَنَاكَ‏)‏ الْوَلِيدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ الْغَمْرِيُّ بِالْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَقِيلَ‏:‏ الْمَضْمُومَةُ، وَالْمِيمِ السَّاكِنَةِ، نِسْبَةً إِلَى الْغَمْرِ، بَطْنٍ مِنْ غَافِقَ، الْأَنْدَلُسِيُّ الْمَالِكِيُّ الْأَدِيبُ الشَّاعِرُ ‏(‏صَاحِبُ الْوِجَازَهْ‏)‏ وَشَيْخُ الْحَاكِمِ، بَلْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً فِيهَا‏:‏ قَالَ‏.‏ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا‏:‏ ‏"‏ أَنَا ‏"‏، وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى الْإِجَازَةَ، كَمَا سَبَقَ فِي مَحَلِّهِ‏.‏ نَعَمْ، اصْطَلَحَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى إِطْلَاقِهَا فِيهَا ‏(‏وَاخْتَارَهُ‏)‏ أَيْ‏:‏ لَفْظَ أَنْبَأَنَا ‏(‏الْحَاكِمُ‏)‏ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ‏(‏فِيمَا شَافَهَهْ‏)‏ شَيْخُهُ ‏(‏بِالْإِذْنِ‏)‏ فِي رِوَايَتِهِ ‏(‏بَعْدَ عَرْضِهِ‏)‏ لَهُ عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ ‏(‏مُشَافَهَهْ‏)‏، قَالَ‏:‏ وَعَلَيْهِ عَهِدْتُ أَكْثَرَ مَشَايِخِي وَأَئِمَّةَ عَصْرِي ‏(‏وَاسْتَحْسَنُوا‏)‏ كَمَا أَشْعَرَهُ صَنِيعُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَمَنْ بَعْدَهُ ‏(‏لِلْبَيْهَقِي‏)‏ الْحَافِظِ ‏(‏مُصْطَلَحَا‏)‏، وَهُوَ ‏(‏أَنْبَأَنَا إِجَازَةً فَصَرَّحَا‏)‏ بِالْإِجَازَةِ، وَلَمْ يُطْلِقِ الْإِنْبَاءَ؛ لِكَوْنِهِ عِنْدَ الْقَوْمِ فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْبَارِ، وَرَاعَى فِي التَّعْبِيرِ بِهِ عَنِ الْإِجَازَةِ اصْطِلَاحَ الْمُتَأَخِّرِينَ، لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَكُنِ الِاصْطِلَاحُ بِذَلِكَ انْتَشَرَ، بَلْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ‏:‏ إِنَّ إِطْلَاقَهَا فِي الْإِجَازَةِ بَعِيدٌ مِنَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، إِلَّا أَنْ يُوضَعَ اصْطِلَاحًا‏.‏

‏(‏وَبَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ‏)‏ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ ‏(‏اسْتَعْمَلَ‏)‏ كَثِيرًا اللَّفْظَ ‏(‏عَنْ‏)‏ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ الرَّاوِي عَمَّنْ فَوْقَهُ ‏(‏إِجَازَةً‏)‏، فَيَقُولُ‏:‏ قَرَأْتُ عَلَى فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ ‏(‏وَهِيَ‏)‏ أَيْ‏:‏ عَنْ ‏(‏قَرِيبَةٌ لِمَنْ‏)‏ أَيْ‏:‏ لِشَيْخٍ ‏(‏سَمَاعُهُ مِنْ شَيْخِهِ فِيهِ يُشَكْ‏)‏ مَعَ تَحَقُّقِ إِجَازَتِهِ مِنْهُ ‏(‏وَحَرْفُ عَنْ بَيْنَهِمَا‏)‏ أَيِ‏:‏ السَّمَاعِ وَالْإِجَازَةِ ‏(‏فَمُشْتَرَكْ‏)‏، وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ عَلَى الْخَبَرِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ‏:‏ وَيُحَدِّثُ نَاسٌ وَالصَّغِيرُ فَيَكْبَرُ‏.‏ وَهُوَ رَأْيُ الْأَخْفَشِ خَاصَّةً، لَا الْكِسَائِيِّ، وَهَذَا الْفَرْعُ- وَإِنْ سَبَقَ فِي الْعَنْعَنَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ الْحُكْمِ لَهُ بِالِاتِّصَالِ- فَإِعَادَتُهُ هُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَلِيَكُونَ مُنْضَمًّا لِمَا يُشْبِهُهُ مِنَ الِاصْطِلَاحِ الْخَاصِّ ‏(‏وَفِي‏)‏ صَحِيحِ ‏(‏الْبُخَارِيِّ قَالَ لِي‏)‏ فُلَانٌ ‏(‏فَجَعَلَهُ حِيرِيُّهُمْ‏)‏ أَيِ‏:‏ الْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ الْحِيرِيُّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ الزُّهَّادِ الْمُجَابِي الدَّعْوَةَ، فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ وَلَدِهِ أَبِي عَمْرٍو عَنْهُ ‏(‏لِلْعَرْضِ‏)‏ أَيْ‏:‏ لِمَا أَخَذَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى وَجْهِ الْعَرْضِ ‏(‏وَالْمُنَاوَلَهْ‏)‏، وَانْفَرَدَ أَبُو جَعْفَرٍ بِذَلِكَ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، بَلِ الَّذِي اسْتَقْرَأَهُ شَيْخُنَا- كَمَا أَسْلَفْتُهُ فِي آخِرِ أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ- أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الصِّيغَةَ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، أَوْ يَكُونَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَوْرَدَ أَشْيَاءَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ هِيَ مَرْوِيَّةٌ عِنْدَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِصِيغَةِ التَّحْدِيثِ‏.‏

‏(‏تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ الْجُزْءُ الثَّانِي، وَيَتْلُوهُ الْجُزْءُ الثَّالِثُ، وَأَوَّلُهُ الْمُكَاتَبَةُ‏)‏‏.‏